ملك من آل قحطان، صاحب التيجان وآخر من سكن قصر غمدان، امتزجت سيرته بين خبر حق كان، وأساطير تنسب والدته إلى الجان، وله منها إخوته وعشيرة بها حكم البلاد وامتلك الصولجان. سيرة سيف بن ذي يزن من أوائل سير العرب التي تناولت النضال القومي وقصص التحرير، والتحالفات السياسية. سيرة سيف بن ذي يزن هي سيرة العرب في كل زمان.تروي الكتب القديمة أن الدين كان ومازال دوماً واجهة الصراعات على الحكم والمال والجغرافيا. فحين اشتد بأس اليهودية في اليمن وكانت للوثنية ديناً راسخاً عند العرب، طمعت الروم في طريق البحار المطل على الجنوب العربي؛ فعمدت إلى تقوية شوكة النصارى في اليمن. وحرضت ملوك الحبشة على احتلال اليمن. كان ذلك بعد انهيار سد مأرب وبعد غرق الأراضي والمحاصيل وهجرة القبائل. كان ذلك على حين ضعف ووهن من العرب ومن أهل اليمن.احتل ملوك الحبشة اليمن ونشروا النصرانية بقوة السيف، وبنى أبرهة الحبشي كنيسة عظيمة في صنعاء وطمع في تغيير طريق حج العرب من مكة إلى صنعاء كي تتغير طرق القوافل والتجارة فتصب حيث يحتل ويحكم. ولم يكن العرب أصحاب عداء مع أهل الكتاب؛ ولكنهم كانوا يؤمنون بحرية العقيدة ويأبون اعتناقها بالسيف. وأبوا تحويل قوافلهم وحرف مسير حجيجهم. لكن بطش الأحباش فاق احتمال عرب اليمن وظلمهم زاد عن الحد واستئثارهم بالمال والسلطة أفقر الشعب وخرب الديار.بعد أمد خرج سيف بن ذي يزن، سليــل آل حمير، طالباً التحرير والاستقلال. وكعادتهـــم العرب آنذاك، حين يشتـــد خطبهم فلا معين لهم سوى أصحاب الممالك والجيوش من الأعاجم، كان العرب يلجؤون لفارس والروم في حل منازعاتهم؛ أولئك الذين اقتسموا نفوذهم بين قبائل العرب فجيشوا أصحاب الولاءات المتنافرة لمواجهة بعضهم وأغرقوا القبائل العربية في النزاعـــات والصراعـــات. زعمــت فــارس والروم حماية القبائل الموالية، فتحولت قبائل العرب إلى حرس حدود للدولتين العظيمتين وأدوات صراع لهما وعمال جباية الأموال لخزائنهما.وفد بن يزن بادئ الأمر على قيصر الروم، وعرض عليه ملك اليمن مقابل تحريرها من الحبشة؛ فرفض نصرته، فملوك الحبشة أهل نصرانية وقيصر على رأس إحدى كنائسها فلن ينصره على بني دينه وعلى وكيل كنيسته في اليمن والقائم بأمر تجارته. ثم وفد سيف بن ذي يزن على كسرى الفرس الذي استقبله بعرش عظيم، وعرض عليه تولية ملك اليمن من يشاء من رجاله مقابل إخراج الأحباش منها. لكن كسرى استثقل بعد اليمن عن فارس وقلة خيرها وكثرة مشاكلها. فأعطاه مالاً وسيوفاً وأمره بالانصراف. نثر سيف بن ذي يزن المال والسيوف في طريق خروجه من قصر كسرى. فناداه كسرى مندهشاً من زهده في المال. قال له بن يزن: لم آتك طالباً للمال فجبال اليمن ذهب وفضة وإنما جئتك طالباً رفع الظلم وإخراج المحتل. فأشار أحد الدهاة من رجال كسرى عليه، أن أرسل مع بن ذي يزن من المساجين من تشاء القضاء عليهم، فإن قتلوا فقد أفرغت لغيرهم مكاناً وتحللت من أعبائهم، وإن انتصروا حكمت بهم اليمن. فأرسل كسرى مع سيف بن ذي يزن تسع سفن حربية متجهة إلى خليج عدن تحمل على ظهرها ألفاً من أهل السجون من المجرمين والقتلة والسقطة.دخل سيف بن ذي يزن اليمن مدججاً بجيش كسرى جمع من استطاع من أهل اليمن والتحموا مع الفرس وقاتلوا أهل الحبشة وقضوا عليهم. تقول الأسطورة إن سيف انتقم من الأحباش شر انتقام؛ قتل الشباب والشيبة وبقر بطون الحوامل، ومن أبقى عليهم سخرهم عبيداً يذللون الأرض أمامه ويخدمونه أمام الوفود التي جاءت تهنئه بالنصر من كافة أقطاب الأرض. غلب سيف بن ذي يزن المحتلين الأحباش وحرر أرضه العربية من احتلالهم واستغلالهم، وأعاد الملك العربي العظيم لليمن. لكنه كان ملزماً بدفع جباية سنوية لكسرى وتولية نائب فارسي له في حكم اليمن!!. واستمر الحال هكذا بعد سيف عقوداً قليلة. يحكم اليمن رجل من أهلها ونائب فارسي وترسل الأموال لكسرى إلى أن ذاب أهل فارس في النسب العربي ودخلت اليمن في الحكم الإسلامي.أشهر ما أثبتته كتب التاريخ وكتب السيرة النبوية، أن سيف بن ذي يزن كان أحد حملة البشارة بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان صاحب علم في الكتب السماوية وصاحب دراية بأقوال عباقرة الكهنة من أهل اليمن. فحين وفدت قريش عليه يترأسها عبدالمطلب جد رسول الله قربه إليه ودنا منه واستودعه سراً لا يذيعه حتى يحين أجله. بشره بغلام بين كتفيه شامة يخرج في زمن له علامة. يذيع خبره بين الناس ويصير صاحب زعامة، وتكون له الولاية ولشأنه الرفعة حتى يوم القيامة. وقد صدقت الحكاية. وخرج محمد صاحب الرسالة.سيف بن ذي يزن أول عربي يخرج طالباً الاستقلال والحرية وعروبة الأرض، هكذا جلله التاريخ وتغنت به الأسطورة وتوارثت ذكره السير الشعبية. لماذا لجأ رجل مثله، إلى الروم والفرس؟ وكيف كان له أن يعرض ملك بلاده عليهم مقابل تحريرها من الحبشة؟ ألم يكن ذلك استبدال احتلال باحتلال؟ كيف قبل تطهير أرضه بجيش من أصحاب الجرائم؟ سيرة سيف بن ذي يزن جعلته بطلاً ذا قوة أسطورية حملته إلى الروم وفارس وواجه بها الأحباش، لكن كتب التاريخ والسير لم تفسر لنا قبول العقلية العربية باللجوء المتكرر إلى فارس والروم، وعجز العرب عن تشكيل حلف دائم لمقاتلة الأعداء الأجانب دون اللجوء للقوى الخارجية. ولم تفسر لنا، أيضاً، رضا البطل الهمام بن يزن دفع الجزية لكسرى وتقاسم الحكم مع رجل فارسي يكون نائباً له!!. هل كان سيف بن ذي يزن بطلاً عربياً حقيقياً، أم أنه صناعة الأسطورة العربية التي عالجت الخيبة وحولت شكلاً من أشكال الهزيمة العربية إلى نصر أجنبي توارثت العقلية العربية إنتاجه والتصالح معه في مراحل تاريخية لم يتوقف تكرارها؟