ما لم تستوعبه غالبية الدول العربية جيداً بعد انتهاء حقبة الاستعمار، هو في عدم إدراكها بأهمية أن تقوم ببناء أوطانها وأنظمتها وفق رؤية مدنية طموحة، ولم يك يخطر في بالها حينذاك، أن الدولة المدنية تعني وصولها إلى مرحلة متقدمة جداً في سبيل ضم كل الأعراق والإثنيات والأديان وصهرها في بوتقة الدولة الحديثة الوحيدة.إن خمول الدول العربية للسعي نحو الدولــــة المدنية ساهم في خــــروج المكونات الشرسة للمجتمع وبروزها بطريقة واضحة لاحتلال المشهد العام في الوطن العربي، مما أدى هذا الأمر لتراجع دور الدولة الحديثة في قيادة المجتمع، وإعطاء المجال لكل تلك المكونات في تصدر المشهد، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من نكسات وإخفاقات وتخلف.إن التمسك بالديكتاتورية السياسية والدينيــة والقبليـــــة فـــــي عالمنـــــا العربي، بخلاف رسم معالم الدولة المدنيـــــة والانشغـال ببناء أركانهـــــا ومعالمها، جعل الأمراض المجتمعية والسياسية تفتك بكياناتها، حتى وصل الحال ببعض الدول العربية الجديدة إلى تخليها عن روح العصر والمدنية، في سبيل ترسيخ مباني العنصرية والطائفية والكثير من أمراض العصر الحديث، تلك الهوائل والأمراض التي تحررت منها الدول الغربية منذ زمن بعيد، بينما نحن في قمة اجتهادنا لإحيائها بسطوة الدولة الضائعة والمجتمع الضعيف.إن من أبرز ما يميز غياب معالم الدولة المدنية في الوطن العربي، هو اختفاء القانون، وضعف الكثير من الدساتير التي تضبط أوضاع تلك الدولة ومحتوياتها، كما إن تجاهل الدول لتطبيق القوانين المدنية عزز من ظهور الجرائم والانتهاكات الصارخة من طرف المكونات الشرسة التي تغلغلت بفعل الهفوات القانونية لتصل إلى المشهد العام للدولة لتحكمها بكل تفاصيلها، كمـــا يبدو أن غياب أسس المدنيــة المعاصرة والمتطورة كالعدالة والحرية والمساواة، كان له الدور الرئيس في تفكك دولنا العربية.إن التجربة القاسية التي تمر بها الدول العربية اليوم هي ذاتها التجربة التي مرت بها الدول الغربية، لكن قبل أكثر من 500 عام، ولربما أعلنت هاتيك الدول بعد الحربين العالميتيــن عن ولادة الدولة المدنية الناضجة الرشيدة، لكننا هنا، لم نقم باستيفاء شروط الاستفادة من تجربة الغرب، وها نحن الآن نكرر كل تفاصيل المشهد الدموي والتخريبي الذي مرت بها القارة الأوروبية بكل تفاصيلها المؤلمة والقاسية.لا يكون الخروج من أزمتنا العربية الراهنة إلا بحل واحد فقط، وهو إحياء الدولة المدنية التي لا تعترف بأي سلطة غير سلطة القانون والمســـاواة والعـــدالة، والتأكيــــد على وعي المجتمعات، بعيداً عن تشكيلها خارج إطار الدولة الحديثة المتفق عليها سلفاً، أما في حال أعطيت الفرصة المطلقة لأي من مكونات المجتمعات العربية المعاصرة للتسيد واتخاذ القرار، فإننا لن نستطيع بناء مدرسة ولا بناء مستوصف طبي ولا حتى بناء طفل حر. إن التجربة العربية الحالية لا تعترف سوى بالقتل وانتهاك الحقوق وتقديم الأعراق على الأوطان، ولا تقبل إلا بالعنصرية والطائفية وكل أشكال الفوضى الخلاقة التي دعت إليها السيدة المحترمة «كونداليزا رايس»، أما الدولة الحديثة فإلى رحمة الله.ليست الدولة الدينية هي الحل، وليس البرلمان هو الحل، وليس القتل وتفخيخ المؤخرات وتفجير الأسواق وقطع الطرق وكافة أشكال الإرهاب وأدوات الضغط هم الحل. الحل يكمن وبكل بساطة في دولة مدنية قوامها العدالة وتقديم العلم على الجهل، وتقويض كل أشكال التمييز، ومحاربة الفوضى وكافة أشكال التخلف العربي. يبدو أن الفكرة وصلتْ.