من أشد الأزمات الثقافية التي تواجه المجتمعات الإسلامية والمتدينة بطبعها هو ثقتها برجال/علماء، الدين كل رجال/علماء الدين، مما شجع هذا السلوك العام تجاه هذه الشريحة من المجتمع أن يلوذ الكثير من الخطائين والتوابين والمنحرفين والفاسدين والفاشلين والهاربين من عدالة المجتمع إلى امتهان علوم الدين والشريعة لتغطية نواقصهم الشخصية لا غير، أما بالنسبة لمقاصد الشريعة وعلومها والناس وهمومها، فهو آخر ما يفكر به هؤلاء المتدثرين بغطاء الدين. كي تكون رجلاً مقبولاً في المجتمع ويغفر لك الناس ذنبك ما تقدم منه وما تأخر، حتى قبل الله تعالى، ما عليك سوى أن تلبس زي علماء الدين ثم تقوم بحفظ بعض الآيات القرآنية والكثير من الأحاديث، وبعض قواعد الفقه والكثير من قصص الموت والنار والعذاب والعقارب والحيات والقبور، لأن كل هذه الأمور تعتبر أدوات جيدة لصناعة المتدين الساذج واللعب على ذقون البسطاء والعوام وغالبية المجتمع!من هنا خرج علينا رجال المتاجرة بالدين، من خلال حفظ بعض المعلومات الدينية وعبر ترميم أشكالهم الخارجية بارتداء العمامة وإطالة اللحية وما إلى ذلك من المظاهر الخداعة، ولأن هذه التجارة الرائجة لا تحتاج لرساميل كبيرة، إنما كل ما تحتاجه هو قطعة قماش فقط، إضافة لحفظ بعض النصوص الدينية والكثير من الخرافات والقصص المرعبة والأساطير.هذا الأمر البسيط والسهل ذو التكلفة الرخيصة مكن هؤلاء من اختراق المؤسسات الدينية والمساجد ودور الوعظ ومراكز التبليغ ومنابر الجمعة، فصاروا يتحكمون في وعي المجتمعات الإسلامية ويتدخلون في خصوصياتها، بل باتوا يعرفون من هم أصحاب الجنة ومن هم أصحاب النار، كما استطاعوا أن يخلقوا لهم صفاً مجتمعياً قوياً يكون من أبرز وظائفه الدفاع عنهم بكل الطرق الممكنة، ومن هنا بات انتقاد رجال الدين، وليس علماء الدين، أمراً صعباً في مجتمعاتنا الإسلامية، إن لم يعد انتحاراً في كثير من الأحايين.هذا الصنف من رجال الدين المتاجرين بالدين وعلومه بدأوا يتكاثرون بيننا بطريقة مخيفة، ولكثرتهم ما عدنا نحفظ أسماءهم وأشكالهم. بالأمس كلنا يعرف الشعراوي والطنطاوي والوائلي وغيرهم القليل من العلماء الكبار من أبناء الطائفتين الكريمتين، أما اليوم فإن عدد رجال الدين ربما يصل لمستوى عدد نسمات المجتمع، وما يدريكم إذا استمر الوضع على ما هو عليه اليوم، أن نكون في يوم الغد كلنا رجال دين، أليست المسألة سهلة ومريحة ومربحة؟!الحل يكمن في وجود مؤسسات علمية ودينية رفيعة المستوى تشرف على سير عملية بناء عالم الدين بطريقة صحيحة وسوية، حتى تكون طريقة البناء بعيدة كل البعد عن الشخصانية والربحية والأمراض المجتمعية والنفسية، كما يجب أن يخضع عالم الدين الحقيقي لا المزيف إلى اختبارات قاسية في علوم القر’ن الكريم والشريعة والأخلاق، وأن يختبر مع كل موجة من الفتن السياسية والاجتماعية لمعرفة مدى قدرته على مواجهة إرهاصات المفتنين والمغرضين، ليقف سداً منيعاً بوجه كل أشكال التطرف الديني وذلك عبر خطابات متزنة ورشيدة.من المهم أيضاً حسبما نراه أن تتجنب المؤسسات الدينية إعطاء شهادات الإفتاء للشباب الصغار من المراهقين المتحمسين، أو بعض رجال الدين من المشبوهين، وأن تكون كل الفتاوى صادرة من العلماء الكبار من الثقاة أو من خلال المؤسسات الدينية الكبيرة، التي تمثل مرجعية حقيقية للإفتاء، أما أن تظل هذه المسألة دون وجود آليات لها أو ضوابط فإن هذا الصنف من رجال الدين الطارئين على المؤسسة الدينية سيتكاثرون بسرعة الضوء، لنجد أنفسنا بعد عقود قادمة من الزمن أن ما بين أيدينا من شريعة هي ليست الإسلام، وإنما هي شيء آخر، وهذا أخطر ما يمكن لنا أن نتوقعه في عصر الزيف والتدليس الديني.
Opinion
رجال الدنيا وعلماء الدين
01 سبتمبر 2014