نجحت بريطانيا في توحيد الخليجيين إبان فترة الحماية أكثر مما نجحوا في توحيد أنفسهم، فقد ارتبط اقتصاد الخليج ببريطانيا حين كان امتداد جغرافي للهند البريطانية، فلبسنا وأكلنا بل وتداولنا المفردات اللغوية ونقود الهند البريطانية نفسها، وتعاملنا مع نظام البريد والبرق البريطاني. كما كانت لندن هي القاضي في الخلافات الخليجية، وأسطول صاحبة الجلالة والبحارة الهنود ببنطلوناتهم القصيرة وملابسهم البيضاء المنفذ لبنود اتفاقية السلم البحري وأوامر صاحبة الجلالة في محاربة التهريب والقرصنة وتجارة الرقيق. وعندما صالحتنا قسراً سمت بلادنا بساحل الإمارات المتصالحة. فحمدنا الله وأرسلنا برقيات التأييد للملك العادل ادورد السابع عبر ذي الشوكة والإجلال «البولتكل ايجنت» الذي كان له مثلنا ديوان و«بيت شعر» يبنيه بالصحراء ويشب النار ويستقبل الضيوف. كما دعونا بالنصر للملك «جورج الخامس» في حرب الدولة البهية القيصرية الإنجليزية ضد هتلر، فانتصر وعشنا في أمان.والآن نعيش في ظل اتفاقيات أمنية مشابهة لاتفاقيات الحماية، ينمق صفحاتها كثير من مفردات السيادة والاستقلال، فهل ساهمت الاتفاقيات الحالية بين دول الخليج كل على حدة مع واشنطن وباريس ولندن في القرن الحالي في تقويض المشروع الوحدوي الخليجي، وأصبحت مسوغاً لتوسع شقة الخلافات في كافة مناحي التعاون المفترض؟ أم كان الاستقرار وهياكل التعاون الاقتصادية والسياسية بين دول الخليج تحت مظلة مجلس التعاون دافعاً لواشنطن خاصة لإقامة هياكل التعاون العسكري مع دول الخليج، وهل سيكون للخلافات بين دول الخليج أثر على الوجود الأمريكي والغربي بصورة عامة؟منذ أن ظهرت الخلافات بين دول الخليج وتقارير واشنطن تتحدث عن معضلات تدفق الإمدادات في حال انقطاع طرق التجارة الإقليمية جراء إغلاق الحدود البرية ومنع استخدام المجال الجوي، كما تتحدث عن قدرة تحرك القوات الأمريكية البرية في المنطقة بعد زوال الحدود المفتوحة، لقد كانت حماية الممرات البحرية واستمرار انسياب حاملات «الكونتينرات» التجارية وناقلات النفط واجباً بحرياً على عاتق الأسطول الخامس، فكيف سيعمل هذا الأسطول بين موانئ خليجية مغلقة في وجه بعضها؟ بل كيف سيستمر التنسيق الراداري وأنظمة توجيه المقاتلات والإنذار المبكر لردع العدوان المشترك لو أغلقت مراكز العمليات الخليجية المشتركة وفككت أنظمة الاتصالات المؤمنة وحزام التعاون؟ وكيف ستعمل واشنطن تحت سقف التشرذم الخليجي لإدارة الدرع الصاروخي الخليجي.نؤمن بأصالة أن أمن الخليج يبدأ من الداخل الخليجي، لكننا نؤمن أيضاً بالبعد الاستراتيجي لأمن الخليج، بمعنى ضرورة أن تحمل دول كبرى لها مصلحة بيننا عبء الأمن فيه، ومن باب المصلحة لا يختلف اثنان أن الولايات المتحدة والغرب بشكل عام سيكونون متضررين لو انتشر سرطان التشرذم في الهيكل الخليجي، حيث لن تتوقف تداعيات الانهيارات الاقتصادية والدفاعية والأمنية، وستتوقف ميزة الأجواء المفتوحة والمياه والطرق المفتوحة لواشنطن.لقد رافق الإرباكات السياسية الخليجية قلق أمريكي واسع، فاعتبر محللون أن الخلافات الخليجية نكسة للدبلوماسية الأمريكية في الخليج وخطر على المصالح الأمريكية، لكن ذلك قابله رأي أن القضية يجب أن تحل داخل البيت الخليجي، ثم جاء اجتماع جدة في 30 أغسطس الماضي متكئاً على عمودي الدبلوماسية الخليجية العتيدين «ترحيل حل الأزمات» و»الإدارة بالغموض»، فلم يقدنا المؤتمر الصحافي إلى حل قبل أن يقودنا إلى الجدل، وكان من ذلك الجدل أن وصلنا لقناعة أننا «لا نبيح» وزراء الخارجية الخليجيين و»لا نحللهم» إن فشلوا بإنجاز اختراق دبلوماسي بجبل الجليد المتشكل بيننا، فقد لا يكونون بسمارك أو كيسنجر، لكننا لا نريد أن نكون السفينة تايتانيك، لأن البديل هو تدخل واشنطن لفرض مصالحة خليجية كما كانت تفعل بريطانيا العظمى، ليس لمصلحة خليجية بل للتعامل مع المسؤوليات الجديدة الملقاة على عاتق البنتاغون حولنا، فهل نستطيع تحمل كلفة مصالحة ستكون «داعش» في ثناياه؟