الرأي

عش طفولتك

المسير



تشتد حاجتك في أحيان كثيرة لغمرات التأمل، في تقاسيم الكون الساحرة، وفي منازلها البيانية الباهرة، وفي ألوانها الرائعة، وفي خيالاتها البارعة، من حقك أن تكون يوماً ما بل في كل حركاتك طفلاً تتغنى بألحان الطفولة، وتعزف ترانيمها بأناملك المشتاقة لبساطة حياتها، وهدوء كيانها، ومرحها الذي يكبح كل آلام الحياة وتقلباتها الموجعة.
أنت كذلك تلبس ثوب الطفولة كل يوم، من أجل أن تغير ذلك الروتين القاتل المتطاول على أجمل علائم السعادة وإشراقات الأمل، تحتاجه لتنظر بنظرات التأمل لكون أبدع صنعه المولى العظيم، نظرات المحب المُشفق على نفسه، المعانق لذكريات جميلة أثمرت بأزهار زكية نبتت على أرض عطائه، نظرات الشوق لذلك النعيم الخالد المقيم الذي يرسم في أذهاننا أجمل صور السعادة، نترنم بها في حياتنا، شوقا لفردوس خالد نتنعم فيه بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
أكتب تلك الكلمات مع روعة البيان لأديبنا الرافعي رحمه الله القائل: «نظرت إلى هذا البحر العظيم بعيني طفل يتخيل أن البحر قد ملء بالأمس، وأن السماء كانتا إناء له، وتسرحت مع هذا الخيال الطفلي الصغير فكأنما نالني رشاش من الإناء، إننا لن ندرك روعة الجمال في الطبيعة إلا إذا كانت النفس قريبة من طفولتها، ومرح الطفولة، ولعبها، وهذيانها، تبدو لك السماء على البحر أعظم مما هي، كما لو كنت تنظر إليها من سماء أخرى لا من الأرض». ويقول: «إذا كنت في أيام الطبيعة فاجعل فكرك خاليا وفرغه للنبت والشجر، والحجر والمدر، والطير والحيوان، والزهر والعشب، والماء والسماء، ونور النهار، وظلام الليل، حينئذ يفتح العالَم بابه ويقول: ادخل..». ويقول: «ما أجمل الأرض على حاشية الأزرقين البحر والسماء، يكاد الجالس هنا يظن نفسه مرسوماً في صورة إلهية».
*صورتي الأولى: أرتمي فيها على تلك الرمال الناعمة على شاطئ البحر، ألعب برمال نشأت منها وإليها أعود، وصدق القائل: «منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أُخرى» «طه:55». رمال أرسم عليها أجمل صور الحياة، وأنثرها على جسمي، وأصنع بها تلك القلعة الشامخة التي سأصنع بها مجدا تتذكره أجيال المستقبل.
* صورتي الثانية: أتأمل فيها في ذلك الأفق البعيد الذي رسمت فيه أجمل ملامح الوفاء والجمال، لمحبة وأخوة لا تتكرر كثيراً في حياة البشر، بحياة بسيطة، وقلوب نقية، ونفوس صافية، وأصالة في معدن الرجال، وكأني أرى فيه تلك الأيادي المتوضئة بماء الإيمان تمد يدها لأصحابها تنتشلهم من ظلام النسيان وضير العيش، إلى دوحة عامرة بالحب والأمل والعطاء والتفاني خدمة لدين الإسلام، شعارهم: «تعال يا أخي نؤمن ساعة»، إنها صورة ربانية رائعة، ننظر إليها بطفولة خالية من أوهام العيش، حتى نعيد الاستمتاع بمشاهدها هناك في الجنة الغالية.
* صورتي الثالثة: انزوي فيها بعيداً عن أصحابي الذين ألعب معهم، وأمشي بعيداً إلى تلك الواحة الغناء الجميلة، أتأمل فيها بتلك السماء الصافية العالية التي أبدع المولى الكريم تشييدها، وإلى تلك النجوم اللامعة، وإلى سكون نفسي جميل أحتاج أن أُداعب خيالاته في كل حين بعيداً عن ضوضاء الحياة، وشحنات البشر السلبية.
* صورتي الرابعة: ألعب فيها بألعابي التي تركتها طويلاً، فأسرعت إليها في لحظة خاطفة بوجه مشرق، وذهن فرغته من كد الحياة ونصب العيش، وتفرغت لها بابتسامتي المعهودة، وفكاهتي الناعمة التي لا يفقه تقاسيمها إلا ألعابي المفضلة، بالفعل أحسست حينها بإحساس جميل ونفس متأملة في أجمل صور الخيال السرمدية التي تنثر بذور الأمل والسعادة على جميع البشر.
* صورتي الخامسة: أتفقد فيها طبيعة ذلك القلب الطفولي البريء، الذي لم ينس يوماً ما أن يتلذذ بعذوبة البيان، ويعانق نسائم الخير، ويرسم السعادة والمحبة في كل مساحات الأرض، حتى يجعلها تضحك للصور البارعة التي رسمت في أرجائها، أتفقد ذلك القلب الذي أطمح أن تغرس في كل ناحية فيه أقوى عرى الإيمان وأطهرها، وأصفيها من كل حبائل الشتات الحياتي، وغرائزها ووساوسها ومُضيعات الأوقات فيها، قلب يتأمل بديع صنع الله تعالى في طبيعة خلابة تنسيك هوامش العيش، وتنقلك لأجمل ما أعده المولى في جنات النعيم.
يكفيك فخراً أن تعيش طفولتك في كل لحظات حياتك، تتمتع بها وبفصولها بقرب من ربك، وبصفاء في حياتك، وبفيض من الحنان، تسكبه على نفسك في كل حين، عش طفولتك كما كنت بالأمس متأملاً تلك الطبيعة الساحرة التي تعطيك متنفس الأمل لتحطم من خلاله كل القيود، لتستمتع بالنماء الإيماني في دوحة الحياة العامرة، عش طفولتك حتى تقضي على تفاهات الأنفس اللاهثة وراء آمال مجنونة تعبث بسعادة الآخرين، عش طفولتك لتكتب، لترسم لوحة جميل على جدران جيل يقدر كلماتك ولمساتك وابتسامتك، عش السعادة التي تريدها، بعيداً عن كل شيء، وإن كتبت هذه الكلمات مرات ومرات لتعانق مسامع الكون.