حسناً فعلت الحكومة بطلبها من النواب تقديم مرئياتهم حول برنامجها مكتوبة وليست شفهية في الجلسة فقط، فذلك الطلب سيضع النواب تحت المجهر وعين الرقابة الشعبية لتحديد مستوى قراءة ورؤية النائب للبرنامج الحكومي وإن كان يراه فرصة لعرض الطلبات الخدمية الحصرية والخاصة بدائرته؟ أم أنه مستوعب بشكل سليم أنه يتعاطى مع برنامج لعمل حكومة مملكة البحرين بأسرها؟ لذا نحن نطالب بعرض مرئيات النواب على الرأي العام حتى نشارك الحكومة تقييم مستوى النواب.أما بالنسبة للحكومة فإن التجاوب الذي أبدته حتى اللحظة هو تجاوب مشكور ومحمود وتعاطٍ راقٍ ومهني حين استجابت لرغبة النواب بالحضور والاجتماع مع المجلس بعدد لا يقل عن عشرة وزراء وهذه سابقة لم تحدث من قبل، إنما يبقى التجاوب شفهياً ليس كافياً حتى بالنسبة للحكومة. بمعنى إن كنتم طلبتم من النواب تقديم طلباتهم مكتوبة وموثقة، فإن شرح البرنامج وتفاصيله لابد أن يكون مكتوباً وموثقاً أيضاً لا شفهياً فقط، فكيف تطالبون ما لا تقدمون؟ مثلما طالبتم النواب تقديم تفاصيل مرئياتهم مكتوبة عليكم بتقديم البرنامج التفصيلي للوزارات مع مؤشرات القياس مكتوبة أيضاً، حتى تتحول «الرؤية» التي قدمتموها إلى برنامج حقيقي ملموس، أما الاكتفاء «بشرح» التفاصيل شفهياً وفق أسئلة النواب فهي آلية غير مجدية وغير كافية وستعطي إجابات بقدر الأسئلة وطبيعتها الآنية.دون أن تكون التفاصيل فاسمحوا لي، إننا لا نتحدث عن «برنامج» نحن نتحدث عن «رؤية» ورغم كونها رؤية جيدة إلا أنها ليست برنامجاً، ودون تقديمها مكتوبة وموثقة فلن تتمكن الأداة الرقابية اللاحقة أن تحاسبكم بموضوعية. نحن لسنا أمام سن أعراف برلمانية سيبنى عليها فحسب، بل أمام سن أعراف حكومية سيبنى عليها كذلك، وطريقة تعاطي الحكومة اليوم مع هذا النص الدستوري ستحدد آلية تعاطي الحكومات اللاحقة وربما لسنوات أو عقود قادمة، فإن فرضت الحكومة هذا العرف -وهو الاكتفاء بتقديم «رؤية» الحكومة لا برنامجها- فإن هذا العرف سيصبح سائداً وحقاً مكتسباً لكل الحكومات اللاحقة، وسيصعب على البرلمانات القادمة تعديله وستتمسك الحكومات القادمة بهذا «التفسير» للمادة 64، فإن مرر نواب اليوم هذا العرف، فقد لا يمرره برلمان قادم، مما سيفتح باباً للجدل يضيع معه الوقت والجهد مستقبلاً مما سيؤثر على المسيرة الديمقراطية سلباً، ولن يكون ذلك في الصالح العام، ولا حتى في صالح الوزارات القادمة.نتفق مع الحكومة بأن تقديم البرنامج التفصيلي ومؤشرات القياس كمعيار لنيل الثقة من عدمها مسألة «صعبة» وليست سهلة لأي حكومة لأنه يضع التزامات كبيرة عليها لكنه تحدٍّ إيجابي يساهم في رفع أداء الحكومات وتجويده، كما نتفق معها بأن الكثير وربما الغالبية من النواب الحاليين يعتقدون أو يتصورون أن البرنامج الحكومي عبارة عما يطلبه المشاهدون وفرصة لتقديم «طلباتهم الخاصة بدائرتهم» ويعتقدون أن الدور المطلوب منهم في إقرار البرنامج من عدمه هو البحث عن طلبات أبناء دائرتهم وبعض الخدمات فإن وجدوها كان البرنامج جيداً وإن لم يعثروا عليها فإن البرنامج فاشل، إنما لنتذكر بأن الأعراف التي سنقرها اليوم ليست رهناً بهذا المجلس النيابي فحسب بل هي للأجيال القادمة وحجر أساسي في تقدم التجربة البحرينية الديمقراطية، فلا ننظر له من منطلق آني فقط، لا ننظر لداخل القبة البرلمانية الحالية فحسب ونقرر أي مستوى من مستويات «البرنامج» نعرضه على النواب والباقي نخفيه أو نؤجله أو لا نربطه به، علينا أن نوسع زاوية الرؤية رأسياً وأفقياً.بمعنى أن نرى أفقياً أنه إلى جانب النواب الحاليين هناك ألف عين بحرينية رقيبة تتنوع في مستواها المهني والأكاديمي هي شريكة في قراءة برنامج حكومتها وتقييمه تقييماً مهنياً احترافياً، منها الاقتصادي ورجل الأعمال ومدير البنوك والمخطط الاستراتيجي والعضو الشوري والعضو في الهيئات الرسمية الخاصة وهم بقراءته يقيمون مستوى أداء الحكومة أيضاً، كما لا نعتقد أن قراء البرنامج هم بحرينيون فقط، بل هناك أكثر من عين أجنبية تشارك في قراءة مستوى مهنية حكومة مملكة البحرين من مقيمين وسفراء ورجال أعمال وإعلاميين ومراقبين وباحثين أجانب، فكيف سيقنع رجال الحكومة جميع هؤلاء أن ما قدموه هو «برنامج حكومي» بخلوه من برامج الوزارات و من مؤشرات القياس؟. لا تعتقد الحكومة بأن «ضبط» إيقاع الاعتراض على البرنامج إعلامياً أو «تضبيط» بعض النواب يجعل منه برنامجاً حكومياً جيداً، قد يهذب من لغة التعاطي مع النقد لكنه لا ينفيه أو ينهيه، وبالتأكيد إنه لن يفيدها في إقناع من هم خارج القبة البرلمانية.أما زاوية الرؤية الرأسية التي نطالب الحكومة بتبنيها فهي النظر إلى المستقبل، وهي تعرف أن شكل المجلس النيابي بعد عدة فصول لن يكون كما هو الآن، فهو حتماً سيتطور بتطور وعي الناخب وسيكتسب خبرة ومهارة، ولن يكون ممكناً تمرير ما يقدم له دون أن يكون مربوطاً بمؤشرات قياس وبتفاصيل برامج الوزارات.المهنية والحرفية والارتقاء بمستوى ما تقدمه الحكومة للسلطة التشريعية اليوم هو العهدة والأمانة المعلقة برقبة الحكومة والسلطة التشريعية معاً، شكل وآلية ومستوى ما سيمررونه اليوم هو ما سيقدمونه للأجيال القادمة، فالرمح من أول ركزة، فكونوا «قدها» وليسجل لكم التاريخ أنكم ساهمتم في البداية السليمة وبنيتم عرفاً تشكركم عليه الأجيال.