قبل أيام استشارني صديق؛ قال إن كل زملائه حيث يعمل تمت ترقيتهم وكلهم صاروا أعلى منه رغم أنه الأبرز والأكفأ ويحمل شهادات أعلى، وإنه سبق أن تحدث إلى مسؤوليه عن هذا الأمر ولم يفعلوا له شيئاً، وسألني إن كنت أوافقه على أن يرفع دعوى قضائية ضد الإدارة التي يعمل بها، وأكد أنه سيكسبها مائة في المائة. فقلت له إن رفع الدعوى من حقك؛ فأنت كمواطن وكموظف من حقك أن ترفع مثل هذه الشكوى ضد الجهة التي تعتقد أنها تتسبب في أذاك وتؤخر ترقيتك المستحقة، ولكن، غياب ثقافة الاختلاف عن كثيرين منا؛ أفراداً وجهات، سيؤدي إلى معاداة الجهة التي تعمل لديها والمسؤولين بها لك، حيث سيعتبرون ذلك تعدياً وإهانة لهم وسيزداد العداء لو أنك بالفعل كسبت القضية، ونصحته بالتريث بعض الوقت كي يهدأ أولاً، وليتمكن من دراسة الموضوع من كل جوانبه ولكن من دون التفريط في حقه الذي يكفله له القانون. كثيرون يشعرون بظلم المسؤولين لهم وبتقصير الجهات التي يعملون لديها والأفراد الذين يتعاملون معهم، لكنهم لا يتخذون قراراً بالاستفادة من القوانين والأنظمة المتاحة ورفع الدعاوى ضد من يعتقدون أنه حرمهم من حق من حقوقهم حتى وإن أكد لهم المحامون أنهم كاسبون لها في كل الأحوال، أما السبب فهو خشيتهم من معاداة الآخر لهم. مثل هذا الأمر لا يوجد في دول أخرى كثيرة (جلها أو كلها غربية)، فهناك لا يؤثر رفع الشكوى في المحاكم ضد الآخر على العلاقة بين الطرفين (الشاكي والمشتكى عليه)، بل إنه ليس غريباً هناك رؤية متخاصمين يقفان أمام القاضي ثم ينصرفان معاً مثلما أتيا معاً، فهما صديقان تربط بينهما مصالح، اختلفا في لحظة على أمر معين فاختارا اللجوء إلى القضاء ليفصل فيه بينهما، لكنهما لم يخلطا بين هذا وبين العلاقة الشخصية التي تربطهما، والأكيد أنهما فصلا أيضاً بين هذا وبين مصالحهما الأخرى، فهما مختلفان في نقطة واحدة فقط وثقافتهما تعينهما على عدم الخلط بين كل هذه الأمور. شخصياً، وجدت في حياتي العملية في إحدى الدول العربية بل الخليجية من رفع شكوى في المحاكم ضد أخيه أو صديقه لاختلاف على المصالح، ومع هذا كنت أراهم يجلسون مع بعضهم البعض يتناقشون في أمور عامة ويتسامرون ويتعاونون في أمور كثيرة، ورأيت كيف أنهم يحرصون على أن يطمئن أحدهم على الآخر وأن يشاركه في أفراحه وأتراحه، بل ويدافع عنه أمام الآخرين في غيابه وفي حضوره!ذات مرة كنت في بيت صديق إماراتي في دبي، وكان في الجلسة صديق له، تناقشا وتعمقا في النقاش حتى بدا واضحاً أن كليهما قد استثير، ازداد النقاش حدة حتى توقعت أن ينتهي بقتل أحدهما للآخر. تابعت النقاش المثير حتى نهايته صامتاً ومترقباً، ثم فوجئت بالرجلين يهدآن ويتحدثان في أمور حياتية أخرى وكأن شيئاً لم يحدث. فسألتهما عن هذا الذي شهدته، فقالا إنهما يختلفان فكرياً ومن الطبيعي أن يدافع كل واحد منهما عن رأيه وقناعاته، لكن الاختلاف في الرأي لا يفسد العلاقة بينهما. أما الغريب في هذا الموضوع فهو أن أحد الرجلين إسلامي والآخر.. شيوعي! لكنك لو غامرت وتحدثت بسوء أمام أحدهما عن الآخر فسترى ما يحدث لك منه!هذا أمر يعبر عن قدرات عالية في ثقافة الاختلاف، وهو للأسف غير متوفر لدى الكثيرين منا إلى الدرجة التي تدفع أحدنا إلى إلغاء الآخر من حياته فقط لأنه يختلف معه في الرأي أو في الموقف السياسي.