أكثر ما يدهشني أن الكثير ممن يفترض أنهم على درجة معقولة من الثقافة والوعي مازالوا يتأثرون بالصور المفبركة ومازالوا يصدقون الأفلام الممنتجة سافرة التزييف وأنهم يشاهدون فلماً يحمل دلالة معينة، لكنهم يصدقون التعليق المرافق للفلم ذا الدلالة المناقضة لدلالة محتواه. وهذا ما يدل على أن كثيراً منا يتلقون هذه الرسائل بأيديولوجيتهم الخاصة وبقناعاتهم المسبقة ولا يقرؤونها بعقل نقدي منفتح.بثت صحيفة الميدان الإلكترونية التابعة لحراك 14 فبراير المعارض في البحرين، بتاريخ 23 أغسطس 2014م، تقريراً حول دور التجنيس في تأسيس خلايا بعثية صدامية وداعشية قد تنشر الإرهاب في الخليج. والتقرير كان في غاية من الركاكة، إلا أن (الخبر) الحقيقي بالمفهوم الإعلامي كان في الصور المرفقة وليس في التقرير. فقد احتوى التقرير على صورتين مختلفتين لشابين يزعم التقرير أنهما شاب واحد؛ الأولى يظهر فيها الشاب بلباس الجيش البحريني والثانية يظهر فيها الشاب يلف شماغاً أحمر حول رأسه وعنقه ويحمل سيفاً، وقد رسم معد التقرير دائرتين حمراوين حول رأس كلا الشابين ووصلهما بخط أحمر كي يتم تأكيد تطابق الشخصين، وأسفل الصورتين ورد هذا التعليق: «مجنس تحت حماية الجيش توعد متظاهري مسيرة الديوان بالذبح ليظهر بصورة أخرى أنه عسكري» ومسيرة الديوان هي إحدى مسيرات حراك 14 فبراير 2011م، الانقلابي التي توجهت للديوان الملكي. وعلى الرغم من أني اعتدت ألا أصدق الآلة الإعلامية لحركة فبراير، إلا أني ذهلت حين علمت من إحدى الزميلات أن الصور لشابين مختلفين وأن الأول (العسكري) هو ابنها، وأن الثاني صاحب (الشماغ) هو ابن أختها، وأن كليهما من قبيلتين بحرينيتين عريقتين وليسا من أصول غير بحرينية!!تكنيك الفبركة أعادني بالذاكرة القريبة إلى الإدارة الإعلامية في تصفية الحسابات للعناصر الإخوانية في العدوان الصهيوني الأخير على غزة. فقد تداولت المواقع الإلكترونية الرسمية للتنظيم الإخواني والحسابات الإلكترونية للإعلاميين الإخوانيين والمناصرين لجماعة الإخوان صورتين زعمت أنهما لنفس (الشخص).الأولى للفريق الطبي الإماراتي الذي دخل غزة لبناء مستشفى ميداني بالتنسيق مع الهلال الأحمر الفلسطيني، وقد أحيط رأس أحد الأطباء بدائرة حمراء، والثانية لضابط جيش يصافح رئيس دولة الإمارات وقد أحيط رأسه بدائرة حمراء وتم وصل الدائرتين بخط أحمر لإثبات أن الطبيب هو نفسه ضابط الجيش الإماراتي. وقد روجت الحسابات الإخوانية هاتين الصورتين أثناء نشرها لخبر أن الفريق الطبي الإماراتي ليس إلا فريق استخبارات إماراتي مجند من قبل الموساد دخل غزة للتجسس لصالح الكيان الصهيوني!!.وقد واكب نشر الخبر والصور حملة تشهير وهجوم شرس على دولة الإمارات العربية المتحدة وعلى دورها في قتل الفلسطينيين والإسهام في دعم العدو الصهيوني. وطبعاً لم تصمد الحملة طويلاً ولم يتم إثبات أي شيء من محتوى الخبر وأنهى الفريق الطبي عمله ودخل فريق طبي آخر بصحبة المطرب الإماراتي حسين الجسمي وقدمت الإمارات ملايين الدولارات دعماً لصمود أهل غزة وعوناً لهم على مصابهم.وإذا قرأنا الصورتين المفبركتين السابقتين باعتبارهما (بنية) بالمفهوم المعرفي النقدي الحداثي؛ فإننا سنجد فيهما ثوابت مشتركة وسنجد نظاماً معرفياً يحكمهما. فمن ضمن الثوابت المشتركة أن الصورتين تتضمنان (معلومة) كاذبة يتم تمريرها لإثبات (فكرة) مضللة من أجل ترسيخ (قناعة) مشوهة.فالمعلومة الكاذبة أن الشخصين في كلا الصورتين واحد، الشابان البحرينيان، والطبيب الإماراتي والضابط الإماراتي، الفكرة المضللة أن الشخوص في الصورة هم أعداء متلقي الصورة؛ فالشاب الذي تزعم صحيفة الميدان أنه مجنس تزعم أنه ضمن الخلايا الداعشية في البحرين التي من ضمن أهدافها قتل الشيعة والتمثيل بهم، والضابط الإماراتي الذي تزعم الحسابات الإعلامية الإخوانية أنه عميل للموساد هو أداة من أدوات الحرب الصهيونية ضد الفلسطينيين. والقناعة المشوهة التي تهدف إليها عمليات الفبركة هي نشر ثقافة الكراهية وتفكيك الوجدان العربي والانتماء العروبي؛ فالبحرينيون من أصول عربية أو المقيمون العرب هم جماعات إجرامية خطيرة تهدد أمن البحرين وسلامة مواطنيها، فهي بمثابة (العدو) للبحرينيين وينبغي (مقاومتهم). والحكومة الإماراتية والشعب الإماراتي هم حلفاء الصهاينة؛ بالتالي هم أيضاً بمثابة (العدو) للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني وأي يد يمدونها للغزاويين أو أي مساعدة يقدمونها لهم إنما هي طعم ليقضوا عليهم؛ بالتالي ينبغي (مقاومتهم).إن التطابق المذهل بين الصورتين في آلية الفبركة وأدواتها وفي النظام الذي يوجه معنى الصورتين يعطينا مؤشراً أن أستاذ الفبركة واحد وأن المخرج واحد وأن ثمة كتلوجاً واحداً يطبقه كلا الفريقين السابقين ليحقق أهدافه تحت بريق الشعارات النضالية نفسها: الحرية، الثورة، المقاومة. ولكن لا يمكن أن يكون الكذب والفبركة وإشاعة ثقافة الكراهية وخلق الفرقة أداة من أدوات الثورة والحرية والإصلاح والمطالبة بالحق بالعدالة، ولا يمكن لأمة أن تتحرر من خطر الانتهازيين والمتآمرين ومثقفوها مازالوا غير قادرين على فك شفرة الرسالة الإعلامية، وغير راغبين أحياناً، في التعلم من سقطاتهم في حفر الفبركات الإعلامية فبركة بعد فبركة.
Opinion
تطابق الفبركة.. يعني أن المخرج واحد والمنهج واحد
04 سبتمبر 2014