«رحل عبدالله خليفة، هجر شخوصه وأمكنته وارتأى أن يكون خلف النص، أن يحتجب ليقرأ مسروداً ومحكياً بعد أن كان حاكياً وراوياً، وطوال تجربته الممتدة به في حقبها وتحولاتها ظل عبدالله خليفة وفياً لعالمه الروائي، ووفياً أيضاً لمبانيه المادية العتيدة. وكان بحق راوي الريف -إن جاز لنا التعبير- ولم يشأ أن يفارق عالم الكادحين والبسطاء. ومع معماره الروائي الشاهق الذي شيده روائياً فضلاً عن إنتاجه الفكري والبحثي. مطلوب اليوم أكثر من أي يوم آخر أن يحتفي بهذا الأديب احتفاء يليق به ويليق بإبداعه، ولا أقل من تخصيص جائزة وطنية كبرى تكون باسمه تحت عنوان (جائزة عبدالله خليفة للإبداع الروائي) واستلهام أعماله مسرحياً ودرامياً، ولا سيما في أعماله الروائية التاريخية، التي بمعالجة درامية يسيرة وشيء من التعديل يمكن تحويلها إلى دراما تاريخية متكاملة تعكس جانباً من تاريخنا وتراثنا الإسلامي». هذا تماماً ما قاله صديقي الكاتب صاحب القلم الرشيق الأستاذ زكريا رضي في حق الكاتب والروائي البحريني الراحل عبدالله خليفة، فأجاد فيما وصف.عبد الله خليفة، هذا الرجل الوطني الذي أنتج من الإبداعات ما يمكن أن يفوق إنتاج الكثير من المبدعين العرب، فاستطاع أن يضع اسم البحرين على طريق الخارطة الثقافية والأدبية في الوطن العربي، وكان مثالاً حياً للشخصية الوطنية التي استطاعت أن تكون رمزاً من رموز العطاء والإثراء الثقافي والأدبي والاجتماعي والسياسي في البحرين.إن مسيرة الراحل الحافلة من الإبداع والتنوير، والتي شهدت على قوة ومكانة الكبير عبدالله خليفة، لم تدع مجالاً لأي منصف ومحب لأديبنا أن يقول ما يمكن أن يقال في حقه، فإبداعاته اختصرت كل الكلام، ورؤاه ونظرياته في التاريخ والأدب كانت نتاج وعيه بطبيعة الحراك السياسي والأدبي والاجتماعي الذي مر به الوطن العربي، وذلك منذ فجر الحركات التحررية وحتى بعد أن تشكلت الكيانات والدول العربية.ناضل الراحل عبدالله خليفة من أجل الإنسان ومن أجل رسم صورة نقدية للوقائع التاريخية بإسقاطات مليئة بالجرأة وكسر المسكوت عنه من المقدسات على هذا العصر المنكوب أصلاً، فكان يفك طلاسم الأحداث ليربطها عبر واقع هذه الأمة، في عملية جراحية لتحسين مستوى الوعي واستئصال كل أمراض الاجتماع، من خلال معالجة دقيقة وفاحصة للمنتج التاريخي، فكانت الرواية مدخلاً جميلاً لتشكيل أجمل لبنات الوعي الإنساني، أما الكتابة فكانت مصدراً للإلهام وأداة مهمة لصياغة واقع المجتمع في زمن أقعدته أمراضه المزمنة؛ كالجهل والتخلف.حين نتحدث عن قامة وطنية كبيرة كقامة الراحل عبدالله خليفة فإننا نتحدث عن تاريخ من العطاءات والتميزات والإبداعات وتهشيم زوايا المألوف، فكان حاداً في تحطيم «التابو» على الرغم من رقته، وكان رقيقاً في طرحه على الرغم من صلابته، ولهذا فإن رحيل رجل كخليفة يمكن أن يحدث فجوة كبيرة في جدار الحركات الوطنية ومسيرة المنتجات الأدبية والثقافية في البحرين، بل وفي كافة أرجاء العالم العربي.عبدالله خليفة، حاله حال كل المبدعين العرب الذين لم تنتبه لهم المؤسسات الرسمية في طول الوطن العربي وعرضه من أجل أن تحتفي بهم في حياتهم، فكرمتهم بعد رحيلهم بضغط من رفقائهم في دروب النضال والإبداع والأدب. رحل خليفة بصمت الكبار والمبدعين، فخسر الوطن رجلاً ربما نحتاجه أكثر من أي وقت مضى. نم قرير العين أيها الراحل العزيز، فإنك أديت ما عليك على أكمل وجه، وتركت بقية المهمة للأجيال المتعاقبة لإكمال مشوار يزخر بجنون حب الإنسان.