«عَ لبنان لاقونا اشتقنا وطالت غيبتنا.. يابا كل الناس سبقونا وليش بقينا بغربتنا!»..ماأزال أذكر كيف كنت بقمة السعادة وأنا بعمر السبع سنوات، لسبب أنه ركزت في رأسي الصغير الجملة الأولى لهذه الأغنية البسيطة الكلمات والعميقة في المعنى والممتعة باللحن والغناء، وذلك بعد أن سمعتها على راديو جدتي الصغير ضمن «الفقرة الصباحية»، حيث كانت تحوي هذه الفقرة باقة متميزة من سفراء الأغنية اللبنانية الراقية الجميلة ذات المعنى والنغمة والحرف أمثال السيدة فيروز، ووديع الصافي وزكي ناصيف والشحرورة صباح، وتبثهم إذاعة مونت كارلو الدولية وكان ذلك في العام 1985.مرت السنين وطوت معها أياماً وليالي وكل يوم على هذا الحال؛ أشارك لحظات الصباح الأولى جدتي قبل أن أذهب إلى المدرسة وأحتسي معها فنجان القهوة المليء بحبات السكر. بدأت أكبر وأفهم حجم هذه السيدة على المستوى الفني. ففي مرحلة الصغر كان يبهرني شعرها الأشقر المُشع كنور الشمس في عتمة الليل، وقدّها المياس، وأزياءها التي عهدت أن أشاهدها في أفلام الأساطير أو «عالم الأحلام؛ ديزني» فهي تشبه كثيراً ملابس الفتاة المسحورة «سندريلا» أو «الأميرة النائمة» وغيرهما من القصص والتي يتميز أبطالها الإناث بلباسهم الساحر الفتان، والذي يشغله الكثير من الخيال ودقة في الرسم والإبداع. إلى أن اتضحت لي الصورة عن قرب وعرفت باللقب الذي يطلق عليها ألا وهو «الأسطورة»، حيث تستحق هذا اللقب بكل جدارة من دون تفضّل من أحد. فهي على المستوى الشخصي أو الفني تمتلك موسوعات مشوقة من الأحداث المثيرة للجدل، وهذا ما يعتبر بطبيعته الحبر الذي لا ينضب لأقلام الصحافيين سواء البيضاء أو الصفراء والمادة الجاذبة لأغلفة المجلات الملونة أو البيضاء والسوداء. حيث كان يتفنن البعض بنسج الخيالات التي تثير السمع وتُبهر النظر عند قراءة العبارات المدوية. أما أنا فأحب أن أطلق عليها لقب «سفيرة الإنسانية» كونها عاشت وعلّمت من حولها أهمية أن يكون الإنسان «إنساناً» قبل أي شيء آخر. وأن الإنسانية لا يحدها شهرة ولا جاه، سلطة ولا مال ولا حتى نفوذ سياسي أو دين. من سماتها أنها «كتاباً أبيض مفتوحاً» من السهل قراءته وفهمه، وأغلفة هذا الكتاب عنوانهم «الصدق». وإن حصل وسمعت أو شاهدت مقابلات إذاعية لها أو تلفزيونية تلاحظ جيداً أن الإجابة على سؤال معين هو نفسه مهما طالت الفترة الزمنية بين طرح السؤال في المرة الأولى وإعادته عليها في المرة الثانية. فهذه الفنانة الإنسانة تُشعرك بعز كبير عندما تعلم أنها كانت خير سفيرة لبلدها ككثير من عظماء التراث في الفن اللبناني وأنها كلما حلّت في مكان كانت محطة اندهاش لكل من يصادفها أو يجلس معها دقيقة أو بالساعات. أعلم جيداً أن مقالاً صغيراً أو كبيراً بكلمات معدودة لن يكن كافياً ووافياً بأن أفرغ كل ما يجول في رأسي وعما يدور في خوالجي عن الإنسانة التي رغم الظروف البائسة التي مرت بها كانت تسعى دوماً لبث روح التفاؤل بين الجميع والتي أسدل الستار على مسير حياتها بكل جوانبها تاريخ 26 نوفمبر2014، وودع لبنان الحبيب إحدى رموزه الوطنية. فهي من كانت تُفرح القلب وتدمع العين عندما يصدح صوتها ويقول: يا لبنان دخل ترابك دخل حجار الفوق بوابك..لما هجرنا وتغربنا ... الله بيعلم شو تعذبنا.. وشو كنا نبكي بغيابك....من يوم اللي هجرنا ورحنا وأنت معنا وين ما رحنا...كان العذاب بيجرحنا لما يحكو عن عذابك....يا لبنان ال حبك الله عنك مش ممكن نتخلى..برمنا أرض الدنيا كلها وما صلينا غير بكتابك...يا لبنان اللي فيك ربينا مانسينا حبك ما نسينا.....ولما الواجب بنادينا منقولك يا مرحبابا