في هذه الحياة تمر عليك شخصيات متفردة، أو أن مثل هذه الشخصيات لا تتكرر كثيراً، شخصيات حباها الله بخصــال جميلــة، وبكاريزمــا خاصــة، وإن كنــت سأصـــف حديـــث الأميــر خليفـــة بــن سلمان حفظه الله خلال لقائه برؤساء التحرير والكتاب فإنني سأقول إن هذا الرجل يملك من الذكاء والحكمة وبعد النظر ما يجعل حديثه كله مجموعة من الرسائل القوية، بأسلوب هادئ، وبذكاء فريد في توجيه الرسائل دون أن يشعر الحاضرون أن هذا الحديث فيه رسالة مباشرة لأطراف أو جهات أو شخصيات.هذه ملكة خاصة حبا الله الأمير خليفه بن سلمان بها، ربما يفتقدها غيره، خاصة أن حديثه ورسائله تصل للمعنيين بدقة ودون أذى، أو دون الإقلال من شأن أحد، بل على العكس فإن لغة الاحترام للجميع هي الغالبة على حديثه.خلال حديث سموه توقفت عند عدة نقاط، أحسبها مفصلية، وأول هذه النقاط هي ما قدمه سموه من شكر لأهل البحرين على وقفاتهم المشرفة مع وطنهم خلال السنوات الأخيرة، كان آخر هذه الوقفات في الانتخابات الماضية.أما حول العلاقة مع مجلس النواب فقد قال سموه «إنه وجه إلى ضرورة التعاون بين السلطتين التنفيذية والتشريعية»، وقال: «إن هذا التعاون يهمنا ويهم مصلحة البلد، وقال سموه أيضاً إنه وجه المسؤولين إلى ضرورة التعاون مع الصحافة والإعلام، وأن يطلعوا على ما يكتب عن وزاراتهم وأن يتجاوبوا مع الصحافة».وأضاف: «أنا متفائل بهذا المجلس النيابي، ونأمل أن نحقق ما يخدم وطننا وشعبنا».إحدى النقاط الهامة في حديث سموه حول العلاقة بين مجلس النواب والحكومة فقد قال «إننا نريد تعاوناً من أجل المواطن، وليس من أجل فوز أحد على الآخر»..!وأحسب أن هذه النقطة هامة جداً، ويحتاج الجميع إلى قراءتها بتمعن.في منحى آخر لحديث سموه حول برنامج الحكومة الذي سيعرض على النواب الشهر القادم، فقد قال سمو رئيس الوزراء إن «لجنة إعداد برنامج عمل الحكومة شكلت برئاسة سمو ولي العهد حفظه الله، وإن البرنامج ستراعى فيه احتياجات الوطن والمواطن». لكن سموه لفت «إلى أن هناك أصواتاً خرجت من مجلس النواب تقول إنها سترفض برنامج عمل الحكومة الذي سيقدم في المرة الأولى».هذه النقطة التي تحدث عنها سمو رئيس الوزراء حول نية رفض برنامج الحكومة قبل أن يقدم لمجلس النواب، إنما هي كلام غريب جداً، لنفترض أن برنامج الحكومة في المرات السابقة كان دون المستوى «مجرد فرضية» لكن هذا أيضاً لا يعني أن النائب يرفض برنامج عمل الحكومة قبل أن يطلع عليه.هذا كلام لا يتصالح مع العقل والمنطق، فحتى يكون الرفض مسبباً، يجب أن يقال مثلاً إننا رفضنا البرنامج لأنه ناقص من كذا وكذا، وإن هناك استراتيجيات غائبة، نطرح ذلك على سبيل المثال.لكن أن يأتي نواب ويقولون إننا سنرفض برنامج عمل الحكومة قبل أن يصل البرنامج للمجلس النيابي فهذا أمر مؤسف، وينم عن قلة خبرة، وقصر نظر، واندفاع غير محسوب، مع كل احترامنا لمن قال إنه سيرفض برنامج عمل الحكومة. أيضا قال سموه: «إن بعض الطلبات التي تقدم، وكأنها طلبات لتعجيزك، والجميع يعلم الظروف التي نحن نمر بها، لكن كل شيء يهون من أجل هذا الوطن».في اعتقادي ومن خلال استماعي للحديث المهم لسمو رئيس الوزراء، إن هناك إشارات جعلتني أتوقف عندها، وأحسبها هامة، أو يمكن القول عنها إنها خطيرة.فقد ألمح سموه إلى أن «هناك توجيهات من بعض المسؤولين الخوف من أنها تؤثر على العلاقة بين المجلس النيابي والحكومة».لا أعرف ربما البعض قرأ بعض تصريحات سمو رئيس الوزراء بشكل مختلف، فهل المقصود من حديث سموه أن بعض الوزراء لا ينفذون قرارات مجلس الوزراء، أو أنهم يؤخرونها ويعطلونها، لا أدري، لكن البعض قرأ الحديث هكذا.في جملة حديث سمو رئيس الوزراء كان أمن البحرين، وأمن المواطن حاضراً في حديثه، وقال إن «الاقتصاد لا ينمو من غير أمن، الأمن هو الركيزة لحياة المواطنين ومعيشتهم ولا يجب أن نفرط في أمننا».هذا الحديث دائماً ما يركز عليه سموه في مجلسه، سموه يقول إن «السياسة شغلتنا عن الاقتصاد، وهذا لا يجب أن يحدث».فيما يتعلق بالحديث عن برنامج الحكومة، أعتقد أن المعادلة التي يريدها الجميع، وتعني المواطن والنائب والإعلام، هو أن يكون البرنامج معبراً عن طموحات واحتياجات المواطن، متى ما تحققت هذه المعادلة فإن غالبية الأطراف ستكون راضية عن البرنامج حتى وإن كان به بعض القصور.برنامج الحكومة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بميزانية الدولة، لذلك فإن من أهم ما يجب أن تركز عليه الحكومة هو ضبط المصروفات غير الضرورية، أو المصروفات التي بها إنفاق في غير محله، وهي في اعتقادي كثيرة بناء على ما كان موجوداً سابقاً.إلغاء البنود التي تصرف في غير محلها، هو أهم تحد في برنامج الحكومة وميزانيتها على حد سواء، لا يمكن أن نقول للناس إن لدينا ظروفاً صعبة بسبب انخفاض أسعار النفط، بينما المصروفات التي في غير محلها لم تتغير بل تزداد.قرأت وقرأ الناس عن ميزانيات رصدت لدى وزارات لصيانة وشراء التلفزيونات، وللزراعة حول مبنى الوزارات، وكانت أرقامها فضيحة بامتياز.ما نطرحه إنما هو صورة صغيرة للمشهد الكبير، فقبل أن نبحث عن تقليص أمور تخدم المواطن وهي هامة لمعيشته، يجب أن أغلق الأبواب والمصروفات الخاطئة.هذا هو التحدي، هناك إنفاق في وزارات الدولة في غير محله، وأموال الدولة تذهب هباء على مخصصات وسفرات، وعلى هواتف، وعلى أمور كثيرة ينفق فيها من غير حساب ولا رقابة.إن كنتم تريدون أن تجعلوا برنامج الحكومة برنامجاً ملتصقاً بالتنمية الحقيقية وباحتياجات المواطن فإن أهم أمر هو وقف الإنفاق الخاطئ، وأن تقوم أجهزة الدولة بحصر كل هذه الأبواب في كل الوزارات.إذا كنا نتحدث عن ترشيد الإنفاق، فإن قضية هامة أخرى تظهر في هذا السياق وهي أن مشروعات خدمية تم تخصيص ميزانيات كبيرة لها، ولكن في حقيقة الأمر فإن المشروع المنجز على الأرض لا يساوي قيمته الورقية أو قيمته في المناقصة التي طرحت.بمعنى أن قيمة المشروع هي أقل بكثير مما تم تخصيصه، وهذه هي أيضاً إحدى الأمور المزعجة لنا، فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن الكوبري الذي يوصل إلى مشروع خليج البحرين تم تخصيص ميزانية له تفوق 100 مليون دينار، وهذا رقم خيالي، وإذا ما أتيت للمشروع بعد تنفيذه، فإن أي شركة متخصصة ستقول لك إن قيمة المشروع أكبر بكثير من الكوبري الذي تم بناؤه.أنا أطرح صوراً فقط، وعلى هذه الصور تقاس أمور كثيرة، هذا هو التحدي أمام «برنامج عمل الحكومة والميزانية العامة».إذا أردتم أن تخاطبوا إحساس الناس، فعلكيم أن توجهوا البرنامج نحو احتياجاتهم الفعلية، وأن توقفوا كل هدر الأموال التي تتم في غير مكانها، هذه المعادلة إذا ما تحققت سوف ترضى الغالبية عن البرنامج وعن الميزانية العامة.خلال حديث سمو رئيس الوزراء حفظه الله كانت هناك إشارات كثيرة، بعضها ولد لدينا إحساساً غريباً، لا أستطيع كتابته، لكن من الواضح أن هناك من يقصر في عمله ولا ينفذ توجيهات رئيس الوزراء، وإن كان كذلك فإن هذا الأمر يجب أن ينتهي. المسألة هي مصلحة وطن، وليس مصلحة أفراد، كما أن المرحلة التي نحن بها حساسة جداً، ولا ينبغي أن نشعر بهذا الشعور.