نحتاج اليوم لتأسيس العديد من الأعراف المرتبطة بأسس علوم الإدارة الصحيحة، والمشكلة التي نواجهها هي أن هذه العلوم لا تؤخذ على محمل الجد في دولنا العربية، ولو كانت كذلك، لما تعبنا ونحن نقول إننا نحتاج لجهة عليا ترسم الخطط الإستراتيجية.هناك في كل قطاع أمور مدونة على الورق، تتصدرها «الرؤية» و«الرسالة» وتقرن بإعلان وجود «إستراتيجية»، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل كل هذه الأمور المكتوبة وبصيغ جميلة جداً واقية، هل تطبق فعلياً؟!لو كنا نطبق ما نقول بالحرف، لكان وضعنا أفضل على صعيد التطبيق وتحقيق النتائج المرجوة بالتالي.لكن المشكلة تكمن في أننا نضع الأهداف على الورق، ونعلنها على الملأ، ولكن التطبيق لا يحقق نصف ما نكتبه ونعلنه، وعليه الجزم بالفشل كنتيجة له نسبة الاحتمال الأكبر هنا.تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية وتضخمه وما تتضمنه نسخه المتعددة، كلها يمكن اختصارها في عنوان عريض مفاده «ضعف أو فشل تطبيق الإستراتيجيات».هنا سنطرح عليكم سؤالاً، إذ كم مرة قرأتم أو شاهدتم أو سمعتم عن هذا القطاع أو ذاك وهو يقيم حفلاً أو مؤتمراً صحافياً أو فعالية يعلن فيها تدشين إستراتيجيته وإعلان خططه وتطلعاته التي تكشف أهدافه التي يسعى لتحقيقها؟!ستقولون «كثير»، ولربما لا يخلو أسبوع من فعالية لجهة هنا أو قطاع هناك، كلهم يعلنون ذات الشيء، أي الكشف عن الإستراتيجية، ورغم ذلك حينما ننظر للنتائج التي تخلص لها التطبيقات نتفاجأ بأن الحكم عليها لا يرتقي للتطلعات، فأين الخلل بالتالي؟!الخلل يكمن في أننا تعودنا على الاستخفاف بمفهوم «التخطيط الإستراتيجي»، بتنا نعتبر إيراد هذا المصطلح من الكماليات اللازمة في أي قطاع، لابد وأن نذكر «التخطيط» أو أي عملية أخرى ونلصق بها مصطلح «إستراتيجي»، لكن العمليات تبقى على حالها من التأخر ولربما التردي، وعليه تظل النتائج كحالها إن لم تتراجع إلى الأسوأ.هل نحن شعوب تستهوينا محسنات اللغة وألفاظها الرنانة في قطاعات العمل، ونظن بأننا لو قدمنا أنفسنا بشعارات جميلة وإصدارات فاخرة ووضعنا السطور المبهرة، هل بذلك سنتقدم؟!أبداً، التقدم يبنى على أسس، أولها وضع الأهداف، ولماذا أصلاً تقوم بهذا العمل أو تبدأ ذلك الحراك؟ ومن ثم يأتي دور التفكير الإستراتيجي الذي تقوم به كفاءات في مجال التخطيط بعد دراسة الواقع المراد تغييره، إذ هنا نقطة يغفلها الكثيرون، تتمثل بأن عملية التغيير لا تتم من منطلق «الترف»، أو بهدف استخدام الكلمة فقط، أي التغيير، بل التغيير يحصل لحاجة لملحة، ويأتي بهدف تغيير واقع للأفضل.بالتالي، هنا يبرز دور التخطيط الإستراتيجي لأي حراك أو توجه أو رؤية أو مشروع، يكون فيه التقييم لجدوى ما يراد القيام به، وما هي أفضل الممارسات المعنية به، والأهم ما هي النتائج التي يجب أن تتحقق والتي يتوجب أن يتم قياسها.كثير من مشاريع الدولة وعملياتها يعلق عليها المواطن والمراقب عن كثب بأنها تفتقر للتخطيط، وأن بعضها بعيد عن الواقع، وأنها لا تخلص لنتائج يتأثر بها المواطن إيجاباً، أو يتغير من جرائها واقعه نحو الأفضل.لو تركنا الترف والمظاهر وهوس «البروز الإعلامي» وفرد العضلات على صفحات الجرائد، وركزنا في جودة العمل ووضع الطرائق المثلى لتحقيق النتائج المرجوة لكان وضعنا وحالنا أفضل بكثير.في الغرب لا يهمهم إبراز الأمور إعلامياً إلا بعد تحقيق نتائج مبهرة، إلا بعد التحصل على إثباتات على أن التغيير في العمل أدى لتغيير في نمط الحياة المرتبطة بتغيير نحو الأفضل في الخدمات والممارسات، بعدها يأتي دور «التفاخر» إعلامياً بما تحقق وما أنجز، لكن لدينا وللأسف الشديد يتم التركيز على إبراز الأمور إعلامياً حتى قبل أن تبدأ، والكارثة تكون حينما يكون للحراك المعني حضور إعلامي به يعلن بدايته، لكن النهاية تكون مبهمة أو لا تتحقق على الإطلاق.التفكير السليم، من قبل الأشخاص المناسبين، يؤدي لتخطيط ناجع، مبني على الواقعية، يستخدم أفضل الممارسات، والخلاصة تتمثل بتحقيق أفضل النتائج.معادلة إدارية بسيطة جداً، لكنها لا تصلح لشعوب ومجتمعات ترى في الكلام واستعراضاته وترى في البروز الإعلامي أولوية تفوق الإنجاز الحقيقي على الأرض، والذي يمكن قياسه ويحقق التغيير المنشود للناس.التغيير الإداري لا يقوم به إلا من يؤمن بعلم الإدارة، ومن يراها ضرورة وأمور حتمية، لا شعارات «ترف»، وبهارات لازمة ليكتمل معها الطبق.