مما لا شك فيه أن الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز قد اضطلع بدور فريد ومميز في جعل إقامة حوار وطني بين المذاهب والأديان المختلفة أمراً ممكناً. وما من شك في حاجتنا إلى دعم هذا الأساس الذي أرساه من خلال أفكاره، واستكمال البناء عليه. وكثيراً ما نتذكر الشخصيات المرموقة البارزة من خلال تصريحاتها، وفي أغلب الأحيان يظل قول متميز محفوراً في ذاكرتنا أو قلوبنا إلى الأبد. إذا أردت تجاوز مجال السياسة، فسأقول كم كانت تمثل شخصية الملك عبدالله من الناحية الثقافية أهمية كبيرة لي، ودعوني أشارككم أحد أقواله عن الثقافة والحوار.لقد كان يتحدث بنبرته الهادئة مع ضيوفه في مهرجان الجنادرية يوم 9 فبراير (شباط) 2012 ويقول: «الثقافة زاد الراحلة إلى قمة الحضارة والكلمة قبس الطريق»، وقد كنت حينها أركز على الثقافة والحضارة والكلمة والطريق. كيف لي أن أجد مكاناً مناسباً يجمع كل تلك القضايا الأربع؟ ما الشيء الذي في متناول أيدينا في الرحلة الحكيمة المليئة بالأحاسيس والأفكار إلى قمة الحضارة؟ إنها الكلمة. ومثل فروع وأزهار شجرة تفاح، كانت الكلمة تنمو وتزهر في عقلي، كيف لي أن أتعرف على هذه الكلمة وأصفها؟ كما يقول الشاعر الألماني العظيم هولدرلين، اللغة (الكلمات) هي بيت الأفكار، وهي الجسر الذي يصل جميع الناس بعضهم ببعض، بل يصل بينك وبين ذاتك. من دون الكلمات أو اللغة لا يمكن إقامة حوار داخل ذاتك. بعبارة أخرى؛ اللغة هي المكون الأساسي لهويتنا، بينما الحديث مع الآخرين مكون أساسي من حياتنا الآنية، وأود القول إن الحوار هو الوجه الآخر للكلمة، فالحوار لا يحمل أي معنى لو لم تكن هناك كلمات، والعكس بالعكس.بالنسبة إلى موضوع الحوار، أنشأ الملك الراحل عبدالله بصفته أحد صناع السياسة الرئيسيين ثلاث مؤسسات مهمة؛ الأولى حين كان ولياً للعهد عام 2003، حيث أسس مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني في الرياض. والثانية كانت من خلال الدور الرئيس الذي اضطلع به في إقامة حوار بين أتباع الأديان من خلال مركز دولي يشارك فيه ممثلون للفاتيكان وإسبانيا والنمسا. والثالثة كانت حين قدّم اقتراحاً، خلال خطاب افتتاح القمة الطارئة لمنظمة التعاون الإسلامي التي أقيمت في مكة في أغسطس (آب) 2012، حث فيه المسلمين على «التضامن، والتسامح، والاعتدال، ورفض التمييز، ومحاربة التطرف والفتنة».وإذا نظرنا إلى العالم الإسلامي وفكرنا في كل الخلافات بين المذاهب يمكننا أن نرى بوضوح أن جذور الكارثة هي غياب الحوار بين المذاهب والطوائف المختلفة. وأعتقد أن مبادرة الملك عبدالله تقدم «فرصة تاريخية» للتقارب بين المذاهب الإسلامية المختلفة ولتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة. وجاءت تلك الفرصة في لحظة تاريخية بالنسبة إلى العرب والأجانب، وأثناء تحولات سياسية حاول البعض استغلالها مع الاختلافات الطائفية من أجل تكريس الفرقة بين المسلمين والعرب. وجاءت تلك الدعوة الجديدة للحوار في الوقت المناسب تماماً، حيث استشعر الملك الحاجة إلى رأب الصدع في صفوف المسلمين، والتصدي لانتشار النزعة الطائفية وإنهاء الصراع ونبذ من يدعمون الكراهية والانتقام. مع الأسف نحن نعيش في زمن اللاحوار. إنه عصر يرى فيه كل شخص أو دين أو طائفة أنه على حق، وكل من سواه على باطل.وطريقة التفكير هذه هي أصل كل تلك المشكلات التي يواجهها العالم هذه الأيام.في نوفمبر (تشرين الثاني) 2007 زار الملك عبدالله البابا بنديكت السادس عشر في مقره البابوي في الفاتيكان، فكان بذلك أول ملك سعودي يزور بابا الفاتيكان. وفي مارس (آذار) 2008 دعا إلى حوار «أخوي وصادق بين أتباع كل الأديان». وفي عام 2011 تم توقيع اتفاق بين حكومات النمسا وإسبانيا والمملكة العربية السعودية يقضي بإنشاء مركز الملك عبدالله بن عبد العزيز الدولي للحوار بين الأديان والثقافات. وشارك الفاتيكان في إنشاء المركز، وكان ممثل الفاتيكان عضواً في مجلس إدارة المركز، وعندما أفكر في تلك المبادرات والمعاهد الثلاثة العظيمة التي تهدف إلى إقامة حوار على عدة مستويات مختلفة، وعندما أنظر في القضايا الثلاث المتمثلة في الثقافة والدين والحوار، أشعر أنني أستطيع القول إن الإرث الذي خلّفه الملك الراحل عبد الله إرث هائل ورائع. ولا يزال الطريق طويلاً أمام الأمة الإسلامية وكذلك باقي البشر في أنحاء العالم، ولا يوجد أي طريق آخر سوى إقامة حوارات، فمن دون الآخرين لا يكون لدينا هوية حقيقية. والتطرف والإرهاب هما نتاج غياب الحوار. حين يكون هناك خلاف وفظائع ترتكب بين المسلمين، سنّة كانوا أم شيعة، أو بين المسلمين والمسيحيين مثلما يحدث في العراق، أو بين الأمم المختلفة حول العالم، فهذا يعني أننا نخاطب بعضنا بعضا بالكراهية والرصاص. إنهم يفضلون صوت الرصاص على صوت لغة الإنسان. في الواقع سيكون كل حوار يتجاهل دور الدين ناقصاً، وسيكون مصير كل حوار داخل العالم الإسلامي لا يهتم بالحوار بين المذاهب المختلفة هو الفشل حتما. لهانز كونغ تأويل مذهل لهذا الموضوع، وهو دور الحوار في عالمنا. لقد قال: «لا يمكن أن يكون هناك سلام بين الأمم دون سلام بين الأديان. ولا سلام بين الأديان دون حوار بين الأديان، ولا حوار بين الأديان دون فحص الأسس التي تقوم عليها الأديان»، (افتتاحية كتاب «الإسلام الماضي والحاضر والمستقبل»).وإذا كنا نريد الوصول إلى قمة الحضارة، فالحوار هو الطريق الوحيد. عن جريدة «الشرق الأوسط»