على صفحتي في «فيس بوك» كتبت نعياً لسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، رحمها الله، وعبرت عن احترامي وتقديري لشخصها المحترم وفنها الملتزم؛ فسألتني إحدى الأخوات المتابعات: «هل تعتبرين الفن رسالة حقاً؟». سؤالها أعاد الجدل الطويل والمتشعب حول الفن إلى ذاكرتي فآثرت أن أجيبها بمقال كامل.لم تستطع أي ثقافة أن تتجاوز دور الفن وأهميته -بما في ذلك أشد الثقافات تحفظاً- فربما تختلف الثقافات في تحديد أطر الفن وأشكاله وتقدير درجة تأثيره في المجتمع، لكنها جميعاً استخدمت الفن واستفادت منه؛ فالفن بطبيعته يحمل خبرة معرفية لا تصل بكيفيتها الخاصة إلا عن طريق الفن، كانت الأساليب الفنية في الرقص والغناء جزءاً من طقوس العبادة في العديد من الديانات، وعبر كثير من الشعوب عن مناسباتهم الدينية باحتفالات تتخللها الفنون التي تحولت إلى فلكور، ويكفي أن نشير إلى توارث أهل البحرين لبعض الاحتفالات الشعبية مثل الاحتفال بالقرقاعون وبخاتمة رمضان والحية بية للتعبير عن مناسبات دينية لها قدسيتها. النقوش التي خلفتها الحضارات الغابرة والتماثيل التي تم العثور عليها عكس طبيعة حياة البشرية في حقب تاريخية مختلفة وترجمت شكل الثقافة ودرجة التقدم العلمي والحضاري لتلك الأمم.وفي الزمن المسمى بزمن الفن الجميل، اكتسب الفنانون شعبية خاصة وموقعاً محبوباً في قلوب الجماهير، ويمكن إرجاع ذلك إلى نوعية الأعمال الفنية الجيدة المقدمة التي كانت تناغي ثقافة الواقع آنذك، وتعرض قصصاً تمزج القيم بالمتعة والعبرة. ويمكن أيضاً تفسير تقدير الجمهور للفنانين في ذلك الوقت إلى طبيعة الفنانين أنفسهم. فذاك جيل في غالبه، عشق الفن لأجل الفن. فاكتسب ثقافة خاصة جعلته معبراً عن فئات المجتمع المختلفة، والتزم بسلوك معتدل خفف عنه اجتياح وسائل الإعلام بفضولها المعتاد، فلم يصبح مادة دسمة للإشاعات والمراهنات، ولم يتحول الفنان إلى مسلسل يتابع الناس أخباره ويسألون عن مستجداته. الكثير من رموز الجيل السابق من الفنانين، فوجئنا بأنهم، ماتوا فقراء في ظروف مؤلمة، وقليل منهم من كسب ثروة طائلة من الفن. شكّل أغلب أولئك الفنانون قناة جيدة لوصول رسالة الفن إلى الجماهير بتأثير بالغ نتيجة المصداقية التي يضفيها المشاهد على الفنان، سواء كان مطرباً أو ممثلاً أو مخرجاً.الفنانون الجدد الذين ساروا على نهج الفنانين الأوائل، هم الذين مازالت الجماهير تضفي عليهم المصداقية ذاتها. مازالت الحياة الشخصية لبعض الفنانين بعيدة تماماً عن وسائل الإعلام إلا ما ندر. انتبه الفنانون الفطنون إلى أهمية تقنين تصريحاتهم الإعلامية وقصرها على مدراء أعمالهم وحصرها على الأخبار الفنية فقط، دون الخوض في التعليق على أعمال زملائهم والتورط في دخول مناوشات وحروب إعلامية مع فنانين آخرين. هناك مجموعة من الفنانين لا يظهرون أبداً في برامج المقابلات الفنية ولا يجرون لقاءات صحفية مع المجلات الفنية، وهناك فنانون لا تكاد تتابع برنامجاً فنياً إلا وجدتهم يعرضون عليك تفاصيل حياتهم الطويلة ثم ينزلقون إلى الحديث عن زملائهم، وكل ذلك مدفوع الثمن.ولكن السمة البارزة للفن في هذا الزمن أنه صار الوسيلة الأنجع والأسرع لكسب الثروات الطائلة. أصبح الفنانون يتباهون بملابسهم وساعاتهم ومجوهراتهم التي تحمل علامات تجارية فاخرة. البعض صار يتباهى بالطائرات الخاصة والفلل والرحلات السياحية. إحدى المطربات عرضت على حسابها في الانستغرام سعر إحدى القلادات التي ارتدها الذي يقترب من المليون دولار، وسربت لوسائل الإعلام سعر أحد فساتينها المرصع بالألماس الذي تجاوز المليون والنصف دولار!!. وقد أصبحت الحكايات الخاصة للفنانين والفضائحيات مادة هامة لوسائل الإعلام مثل التورط في قضايا المخدرات والآداب أو قضايا إلحاق النسب. وهذا ما جعل صورة الفن باعتباره رسالة تهتز في نظر الجماهير. فلم يعد المشاهد يقتنع بأن فتاة ترفل في الترف والغنى الفاحش تمثل دور فتاة فقيرة تصارع الظروف القاهرة من أجل كسب لقمة العيش بشرف. وصار من الصعب على بعض الجماهير الطرب لمغنية تعبر عن مشاعر الحب والوجد، وهي تتشاجر كل يوم على حساباتها المختلفة في شبكات التواصل الاجتماعي!!. بهذا المنطق يتعذر أن يتجاوز الفن مفهوم الترفية والتسلية، لأن مخيلة المتلقي قد تستقبل رسالتين متناقضتين أحياناً، رسالة الفن وقيمه الرفيعة، وصورة الفنان التي قد تكون سلبية.الفن رسالة سامية، ووجدان الأمم وضميرها الجمعي. بالفن يقاس تقدم الشعوب وتطورها. وهو مجس دقيق لمشاعرها وتفكيرها. وقد يكون من الصعب على مجتمعنا إنتاج فن راق في الوقت الذي نعجز فيه عن إنتاج أنماط ثقافية حية وثرية في مختلف المجالات يكون الفن أحد تجلياتها وليس وسيلة الترفيه فيها.
Opinion
الفن حكمة الحياة التائهة
29 يناير 2015