مرت أربعة عشر عاماً على صدور ميثاق العمل الوطني لمملكة البحرين في فبراير عام 2001 بنسبة 98.4%، ولعلها كانت فاتحة خير بصدور الميثاق افتتاحاً للألفية الثالثة من ميلاد سيدنا عيسى عليه السلام، ذلك التاريخ الذي أصبح متعارفاً عليه أنه سجل لتاريخ العالم المعاصر بغض النظر عن الأديان والعقائد والتواريخ الأخرى للعديد من الشعوب، ومن ثم فإن مرور أربعة عشر عاماً يجعلنا نتساءل عما تحقق وما لم يتحقق؟ وكيف نعزز المكاسب ونعمل على تخطي العقبات والصعوبات التي واجهت التنفيذ؟ بنظرة موضوعية نجد أنه قبل عام 2001 كان التطور الديمقراطي قد توقف بعد إيقاف العمل بدستور 1973، وكانت هناك قوانين غير ديمقراطية، وكان هناك مبعدون ومنفيون ومعتقلون.اليوم بعد أربعة عشر عاماً فقد استمر العمل بدستور المملكة الصادر في فبراير 2002، ولم يعد هناك منفيون أو مبعدون، إنما شخصيات ذات توجهات سياسية رأت بمحض إرادتها أو مدفوعة باعتبارات أيديولوجية أو مصالح شخصية للتخلي أو الابتعاد عن العمل السياسي في مجتمعها، ووجدت في الاحتماء بالخارج ملاذاً يحقق لها أطماعها وتطلعاتها، ووجدت في انتقاد سياسة وطنها وهي في الخارج حضناً آمناً لها، وهذا من أغرب المظاهر للعمل السياسي الوطني، ولا نجده إلا في بلادنا العربية والإسلامية، والسؤال لماذا؟ إن الاحتماء بالخارج والإقامة فيه كان من مظاهر الماضي عندما كانت بلادنا العربية خاضعة للاحتلال الأجنبي، وكان الاحتلال يفرض القمع على القوى الوطنية، ولكن اليوم نتساءل ما هو المبرر؟ البعض يقول إن القمع قائم والبعض يقول إن الحريات غير متاحة، وهذا لا يعبر عن الحقيقة، فالعمل السياسي هو عمل سلمي، أما إذا لجأ من يطلق على نفسه ناشطاً سياسياً للعنف والهجوم على أسس مجتمعه فلا يسمح له، لأن هذا يتعارض مع الدستور والقانون وميثاق العمل الوطني، وينبغي أن يفكر كل من يرغب في العمل السياسي من أجل وطنه جيداً في سلوكه وتصرفاته ويقارن ذلك مع أي مواطن في بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا أو الولايات المتحدة، وهي دول ديمقراطية عريقة. هل هناك من يلجأ للاحتماء بالخارج أو هل هناك من يمارس العنف والتظاهر المستمر كما يحدث في بلادنا العربية.نحن لا نقول إن البحرين أو غيرها من الدول العربية بلغت النموذج في الديمقراطية، ولكننا نقول إنها على الطريق السليم، فالديمقراطية هي ممارسات سليمة تؤدي إلى عملية تراكمية في التعليم والتعلم، وبعد سنوات قليلة تظهر ثمرة العمل الديمقراطي وتتطور، ولو نظرنا لأية دولة ديمقراطية في الغرب منذ مائة سنة على سبيل المثال نجد المرأة حقوقها تكاد لا تتذكر والمواطن حقوقه محدودة، والحديث عن الحريات والشفافية وغيرها لم يكن من مفردات العمل السياسي، اليوم تطور الموقف أي أن العمل تراكمي ومستمر باستمرار الحياة، فليست الديمقراطية ثوباً جاهزاً يمكن شراؤه وارتداؤه ولكنها ممارسة حياة يومية وتفاعل مع التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي في المجتمع، وهو ما يختلف من مجتمع لآخر وفقاً لمراحل التطور.لو ألقينا نظرة على البحرين منذ 30 عاماً لوجدناها اليوم أكثر تقدماً وأكثر استقراراً وأكثر ديمقراطية وأكثر تطوراً في البنية الأساسية وأكثر رفاهية لشعبها، وكذلك لو قارناها قبل صدور ميثاق العمل الوطني وقبل صدور دستور المملكة بما هي عليه اليوم لوجدناها حققت قفزة نوعية، وكان يمكن أن يحدث التطور أسرع وأفضل وأكثر ثباتاً لو كانت الظروف الدولية والداخلية مختلفة، ولو تم تعليم المواطن مبادئ العمل السياسي، وهذه مسؤولية التعليم، وخاصة التعليم الجامعي، ومسؤولية الإعلام، فإذا فهم المواطن أن مطالبته بالحقوق لابد أن تسير في الأطر القانونية التي رسمها الدستور ومطالبته بالشفافية والعدالة لابد أن تكون في إطار الوسائل السليمة التي وضعها القانون وليست عبر سياسة التظاهر أو الاعتصامات في الشارع مما يعطل مصالح الناس ويضر باقتصاد الدولة وليس من الأساليب استخدام العنف، أو سياسة الجمود والنظر للدولة ومؤسساتها وقياداتها بأنهم أعداء له. إن التفاعل بين المواطن والقيادة والمؤسسات هو الذي يؤدي للتطور، وأنا أقول كباحث ومتخصص في العلوم السياسية إن المقاطعة للانتخابات يتحمل نتائجها من يقاطع، ولو استعرضنا التاريخ الفرنسي أو البريطاني أو الألماني أو الأمريكي، فإننا لا نجد مثل تلك الممارسات، إننا نجد قوى سياسية تتفاعل وتتنافس من أجل أفضل السبل لتحقيق التقدم.إن مأساة السياسة في دولنا العربية هي عدم فهم أولويات وأبجديات العمل السياسي وذلك لنقص التعليم، لقد كان السياسيون الذين قادوا العمل السياسي الوطني في بداية القرن العشرين من دارسي العلوم السياسية والقانون، بينما السياسيون الذين يتصدرون المشهد منذ أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين من خريجي الطب والزراعة والهندسة، وهم مواطنون شرفاء ولهم حقوق المواطنة، ولكن عليهم أن يعرفوا التأهيل السياسي الصحيح. إن الغرب يتمرس السياسيون لديه في دهاليز الفكر والممارسة السياسية، أما عندنا فإن السياسي يتصور أنه صاحب حق يمارسه متى شاء وكيف يشاء، وهذا غير صحيح، إن للمواطن حق المشاركة في السياسة وفقاً لقواعدها والتأهيل للعمل السياسي، وليس من حق أي شخص أن يمارس مهنة الطب أو مهنة الهندسة، بل يشترط فيمن يمارس مهنة التعليم أن يحصل على مؤهل تربوي، أما في العمل السياسي والعمل الدعوي الديني فالبعض يتصور أنهما مجالان مباحان لكل راغب، وهذا عكس المنطق الصحيح في الحياة ووصفة للتخلف والجمود وليس للتطور أو للتقدم، إن كل مواطن له حق المشاركة السياسية وفقاً للأسس الديمقراطية، وكل مواطن له حق أن يكون متديناً وتقياً ورعاً، ولكن ليس من حقه أن يفتي في الدين بدون علم مبني على قواعد سليمة، مثلما من حق كل مواطن أن يحصل على العلاج ولكن ليس من حقه أن يعطي العلاج للآخرين ما لم يكن مؤهلاً لممارسة الطب، وكذلك في شتى المهن.ولعل هذا من أخطر العقبات التي تواجه السياسة والدين في بلادنا، ومن ثم نجد ظواهر الانحراف السياسي والممارسات الخاطئة والتي تغذيها الأوهام والجهالة السياسية، كما نجد التطرف الديني والإرهاب الذي أساء للإسلام من قبل بعض من ينتسبون إليه.إن ذكرى مرور أربعة عشر عاماً على صدور ميثاق العمل الوطني ينبغي أن يتم إحياؤها بنشر الوعي بالثقافة السياسية، وأن المسؤولية الأولى تقع على الجامعات، خاصة الجامعة الأم جامعة البحرين، إنني في غاية الدهشة كيف لا تدرس مفاهيم العمل السياسي والتنمية السياسية والديمقراطية والعلاقات الدولية وغيرها من مقررات العلوم السياسية في مثل هذه الجامعة العريقة، ونفس الشيء مطلوب في نشر الوعي من وزارات الإعلام وهيئة الثقافة، فالعمل السياسي هو عمل ثقافي وتعليمي بالدرجة الأولى، وهذه دعوة لإعادة النظر في المناهج والمقررات والبرامج والندوات من مختلف الهيئات ذات الصلة، حتى يتم نشر الوعي الحقيقي بالسياسة وأساليبها ومبادئها ووسائلها، وحتى يمكننا التقدم بدلاً من البقاء بل والتراجع في عقولنا التي تتجمد عند لحظة معينة أو عند واقعة معينة أو عند تصور معين لا أساس له من الصحة، ونفس الشيء بالنسبة للمفاهيم الدينية الصحيحة. إننا في دولنا العربية في حاجة ماسة لوقفة صادقة مع النفس؛ ماذا حققنا من ممارساتنا الخاطئة ومن التصادم بين قوى المجتمع ومن مواقفنا السلبية تجاه مؤسسات الدولة، فالدولة ليست ملكاً لفرد أو جماعة؛ هي ملك للشعب بأسره، وعلينا جميعاً أن نعمل على حمايتها وحماية مؤسساتها وأن نتبع ألأساليب القانونية في عملنا السياسي كما نتبع قواعد العمل في مختلف المهن، وعلينا أن ندرك أن كل حق يقابله واجب وأنهما صنوان لا يفترقان في الحياة وأيضاً في العمل السياسي. إن ذلك خير ما يمكن أن نعبر عنه في ذكرى مرور أربعة عشرة عاماً على صدور ميثاق العمل الوطني بمملكة البحرين.. حمى الله البحرين قيادة وشعباً بكافة طوائفه ومكوناته من كل سوء.
Opinion
ذكرى ميثاق العمل الوطني
14 فبراير 2015