من أكبر مشاكلنا في هذا المجتمع الصغير أننا مضطرون للتعامل مع كثير من التجار، وهنا لا أعني التجار الذين يبعوننا السلع، بل التجار «الأخطر» تأثيراً على المجتمع وعلى الناس، الذين لا يبيعونك سلعة ملموسة يمكنك تجربتها والحكم عليها، بل التجار الذين يبيعونك أشياء تؤثر على عقليتك وتفكيرك وإرادتك وتهز قناعاتك وتجعل داء الإحباط واليأس يدب فيك، بل تدفعك أحياناً لتضحي بنفسك وبأغلى ما تملك لأجلهم.هناك من يتاجر بإرادتك وبعقلك وبفكرك باستخدام الدين، هؤلاء يبيعونك الدين كسلعة رخيصة هدفهم من وراء ذلك شراء «تبعيتك» و«ولائك» و«اعتقادك»، وأن يحولوك إلى رقم «مجرد رقم» في قطيع من البشر نجحوا في سلب إراداتهم باسم الدين.هؤلاء يظلم نفسه كثيراً من يسلم أمره لهم، من يعتبر قولهم قولاً فصلاً منزهاً ومعصوماً، هؤلاء دجالون ركبوا على ظهر موجة الدين، واستخدموه مطية وحولوا الناس إلى عتبات سلم يصعدون عليهم لتحقيق غاياتهم.أما النوع الثاني من التجار فأولئك الذين بسببهم قد تتردى أحوال مجتمعات، وقد تتزعزع ولاءات وانتماءات شعوب بأنظمتها، وقد تضيع بوصلة التخطيط فيها، وقد يوصلون الناس إلى أعتى أنواع السخط، هؤلاء هم تجار الشعارات وبائعو الوهم، هؤلاء هم من يعطونك من حلو الكلام، ومن يصورون لك أن الحياة ستصبح وردية بينما هي تتردى، من يقولون لك بأنك أهم شيء في عملهم ومخططاتهم بينما أنت على آخر القائمة، إن لم تكن فيها أصلاً.هؤلاء يتنوع انتشارهم، تجدهم –إلا قليلاً ممن رحم ربي- في مناصب هامة في قطاعات حكومية، تجد بعضهم في مجلس النواب مجلس الشعب، تجد بعضهم في مؤسسات مجتمع مدني يفترض أنها وجدت لتخدم الناس، لكن للأسف كل ما يبرعون فيه هو «التخدير» بشعارات وكلام منمق مجمل، بل يبدعون في الوعود وفي تطريز ذلك وتغييب الصورة الحقيقية الحاصلة.هؤلاء تجار وهم، أساس الأمراض في كل مجتمع، ومحاربة هؤلاء لا تكون إلا عبر إبعادهم وحماية الناس والمجتمع من شرورهم ومن سوء نتاجهم، الحل في هؤلاء بأن يبعدوا ويحل محلهم أناس ليسوا «تجاراً» بل هم أناس فاعلون عاملون منتجون يقوون على تحويل الوعود والأقوال إلى أفعال، أناس يكون الناس بالفعل همهم، يحاسبون في كل كلمة يقدمونها لهم، يكونون صادقين في عملهم وفيما يخططون له وفيما يريدون إنتاجه.أما النوع الثالث، فهم أولئك الذين يبيعونك الفضائل والمثاليات بالكلام، ولو جئت لتثبت بأنهم يفعلون ما يقولون، ستكتشف بأنهم آخر من يؤمن بما يقولون، وأنهم آخر من يطبق ما يدعون غيرهم لفعله.بالله عليكم كيف أصدق من يقول لي «لا تكذب» وهو يمارس الكذب بلا استحياء؟! كيف تريدونني أن أصدق من يقول لي بأنه رافع لشعار الفضيلة محارب للدعارة –مثلاً- بينما جزء من مدخوله وجزء من أعماله مرتبط بالدعارة والفنادق وغيرها؟! كيف أصدق «تاجراً» يقول لي لا تسرق وهو سارق؟! يقول لي كن عصامياً، وهو أكبر متملق ومنافق وظالم؟! كيف أصدق من يقول لي بأن التدين هو طريق الإنسان الصالح، بينما أفعاله وأقواله لا تمت للدين بصلة؟!هؤلاء تجار منتشرون في كل مجتمع، وفي مجتمعاتنا العربية نسبتهم أكبر، خاصة وأننا مجتمعات اتخذت من الفضائل والأخلاقيات والدين «شعارات» فقط، تستخدم لأجل الضرورة، وتستخدم لأجل التجميل الإعلامي، بينما الحقيقة تقول بأنهم السبب في صنع «مجتمع للرذيلة» سواء أخلاقياً أو دينياً أو إدارياً، وليس «مجتمعاً للفضيلة» كما يدعون ويحاولون خداع الناس بذلك.