كعادتي؛ كل صباح أستمع إلى البرنامج الإذاعي الرائع «صباح الخير يا بحرين»، ودائماً ما أعاهد نفسي بأن أمتنع عن الاستماع لهموم المواطنين المطروحة عبر البرنامج لكي لا أصاب باحتراق نفسي.في إحدى حلقات هذا البرنامج الجماهيري، استمعت إلى عدد من القصص المأساوية فأحدهم تحدث عن أنه لم يستطع الحصول على وحدة سكنية وأنه شارف على التقاعد، وآخر تكلم عن أنه يعيش وأبناؤه الخمسة في شقة يتجاوز إيجارها الشهري 200 دينار بينما راتبه الشهري لا يتجاوز 400 دينار، وغيرها من القصص التي لست بصدد ذكرها أو مناقشتها. فهرم ماسلو وهو الهرم الأشهر في تحديد احتياجات الإنسان كفيل بأن يقول لنا إن «المسكن» من الاحتياجات الأساسية للإنسان.ونص الدستور البحريني صراحة على التزام الدولة بـتوفير السكن، خاصة لذوي الدخل المحدود «تعمل الدولة على توفير السكن لذوي الدخل المحدود من المواطنين»، ولو رجعنا إلى أصل الموضوع فسنجد النص قاصراً حيث لم يحدد لنا الدستور أو أي قانون من هم «ذوي الدخل المحدود» ولم يحدد تفسير واضح لكلمة «توفير».لن أدافع عن حق المواطن البحريني «ذوي الدخل المحدود» في السكن، ولا عن شروط الإسكان «التعيسة» التي ورطت الدولة وجعلتها «دولة رعوية»، والدولة الرعوية هي الدولة التي عودت الشعب على تقديم كافة الدعم له، فيكون فيها العلاج مجانياً، والتعليم مجانياً، والسكن مجانياً أيضاً، بل وتدعم له أسعار الطعام الأساسي، ليتحقق فهم الراعي والرعية. فهل نعتقد أن تواصل الدولة في تقديم هذا الدعم لمواطنيها الذين أصبحوا يؤمنون بأن جميع الأمور سالفة الذكر «حق مكتسب» لا يمكن للدولة الرجوع عنه؟يقول أحدهم بغضب «الدولة تأخرت في توفير سكن لي»، فسأله أحد أصدقائنا الأوربيين: «هل تأخرت عليك الدولة في تقديم التصاريح اللازمة لاستكمال البناء؟» فرد الآخر: «لا، إنني أنتظر أن أستلم وحدتي السكنية من الدولة، فالدولة عندنا (ملزمة) بتوفير السكن». جحظت عينا الأوروبي وقال: «أتوفر الدولة وحدات سكنية للمواطنين؟» فقال له: «نعم الدولة (مجبورة) على توفير سكن لنا فنحن رعاياها». فقال الأوربي: «ألهذا السبب تقدم لكم الدولة بيوتاً مجانية؟» قال: «لا ليس هذا السبب، والبيوت ليست مجانية ولكنها مدعومة، إن كل ما في الأمر أن من حقي كمواطن أن أحصل على وحدة سكنية». فسأله: «وماذا إذا لم تمنحك الدولة بيتاً أو وضعت لك خطة بديلة؟»، فالتفت عليه غاضباً وقال: «وكيف ستجرؤ الدولة ألا تمنحني حقي؟!»، فقال له الأوروبي: «أي حق تتحدث عنه!!»، فقال: «الحق الذي منحني إياه الدستور البحريني والذي بموجبه أكون مواطناً مستحقاً للوحدة السكنية من قبل الدولة».فواصل صديقنا الأوروبي حديثه، لا أعتقد بأن دول الخليج ستستمر في تقديم هذا الدعم، فمعظم دول الخليج هي دولة ريعية تعتمد اعتماداً أساسياً على النفط في دخلها القومي، ولا تمتلك مصادر متعددة للدخل، وجميع المهتمين بالشأن الاقتصادي يعلمون جيداً التقلبات الحاصلة في أسواق النفط، فقال له الآخر: لا تخشى لا تستطيع الدولة التخلي عن التزامها تجاه رعيتها. فقال له الأوروبي: سوف تجبر دول الخليج على ذلك، وضحك مكملاً: من الأفضل لك أن تضع خطة بديلة للسكن فلو سنحت لك الفرصة أن تنعم بسكن مجاني، فلربما لم تتكرر ذات الفرصة مع أبنائك..كنت أتابع الحديث في هدوء وروية، معجبة بالاختلاف الفكري والثقافي بين الاثنين، فصديقنا الأوروبي يعمل محاضراً في إحدى الجامعات، ويسكن بالإيجار في شقة صغيرة في منطقة تبعد عن الجامعة التي يدرس فيها بمسافة 30 دقيقة، ويعتبر هذا الأوروبي نفسه محظوظاً لأنه لا يحتاج لشراء سيارة للعمل فالمشوار بالنسبة له قريب، والمواصلات الجماعية متوفرة بالقرب من مكان سكنه، وهي أكثر توفيراً بالنسبة له حيث إن سعر البنزين في دولته مرتفع جداً. وهذا الأوروبي أيضاً لا يستطيع العلاج دون إبراز بوليصة التأمين، ويعد نفسه محظوظاً بأن أبناءه سيحصلون على منحة جزئية جامعية في المستقبل إذا ما قرروا الدراسة في نفس الجامعة التي يدرس بها بينما يلتزم حالياً بدفع رسوم تعليمية لدراستهم حالياً.أما «الرعية المدللة» في البحرين فهي ترى كم امتيازات الوضع الراهن «حق مكتسب»، بل أنها غير مقدرة لهذه المكتسبات، وهو من وجهة نظري المتواضعة ليس بخطأ الشعب فقط؛ فالشعب يستحق أن تغدق عليه الدولة من خيراتها لطالما كانت تستطيع ذلك.إن الدولة ساهمت في تجذر المفهوم الخاطئ «للدولة الرعوية» في ذهن المواطن حينما يراها مسؤولة عن كل شيء في حياته من المهد إلى اللحد، حيث إن ذلك جعل المواطن يشعر أن الدولة مسؤولة عنه في كل أمور حياته، وبالتالي يجد المواطن لنفسه العذر في إخفاقه وفشله وتحميل الدولة كل تبعات ذلك، حيث إن الواقع يستدعي منا مراجعة كثير من المفاهيم السائدة؛ لكي ننتقل إلى مفهوم الدولة الحديثة، إلى جانب فهم دور كل جهة، سواءً كان ذلك على مستوى الدولة أو الأفراد أو المؤسسات، إلى جانب الجهات المؤثرة والمشكلة لوعي المواطن لنتفادي الصدام مع المستقبل، وليتعرف على كيانه على حجمه الطبيعي... للحديث بقية