ترددت كثيراً قبل الشروع في كتابة هذه السطور، لكن ما دفعني إلى الإقدام بالخوض في هذا الموضوع الشائك هو مساحة الحرية التي نتمتع بها في مملكتنا الحبيبة تحت ظل قيادتنا الحكيمة، وقبلها البراءة إلى الله ورسوله مما يقترفه خفافيش الظلام.جلنا بات يعلم يقيناً أن تنظيم «داعش» لم يولد هكذا فجأة، فقد تناسل ومر بمراحل تكوينية عديدة أشبه بنظرية «دارون» في الرقي، لكن السلبي حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم، وكان بالمستطاع الإجهاز والقضاء على أجنتها من القيادات والتنظيمات التي كانت تنتشر هنا وهناك وتجد لها حاضنة ممن يدفع لفكرهم المنحرف عن سواء السبيل.تلك الدول لم تصنفهم في بادئ الأمر كمجاميع إرهابية؛ بل كانوا يضفون عليهم جميل الألقاب التي جعلتهم محط احترام وتقدير من البعض، فتارة تصفهم بالمجاهدين والمصلحين، وأخرى بالمقاومين والمحررين، وكانت تتسابق في دعمهم؛ بل حتى تروج لفكرهم إعلامياً، وكانت تسمح للجمعيات ولخطباء المنابر والكتاب والصحافيين بتبجيلهم مما أدى إلى تحولهم تدريجياً لقوة كبيرة لا يستهان بها، فانخرط تحت عباءتها كثيراً من شبابنا المغرر بهم، ولا أصنف ذلك تحت باب التخطيط والمؤامرة بل هي الغفلة عند التأسيس وغياب المنظور السياسي الذي نفتقر إليه، فاستغلت الدول الكبرى المتصيدة والمتربصة تلك الظاهرة ووظفتها تسييساً لمآربها.وبالتنسيق مع القيادات والدول التي كانت تعاني من أزمات داخلية تم تسهيل انتقال عشرات الآلاف منهم لينشطوا في مناطق محددة عند الشريط الحدودي مع الاتحاد السوفيتي المنهار وبعض الدول المحاذية له، وبدعم أمريكي هائل لا يخفى عن الكثير، وبقيت ذيولهم والمتخفي من قيادتهم من الخط الثاني تعمل في حواضنها، وامتدت تلك الفترة لعقدين ونيف، ثم أعقبها فترة سبات زهاء عقد آخر قبل أن يدخل مخطط أمريكا الشهير (الشرق الأوسط الكبير) حيز التنفيذ، وذلك بانطلاق شرارته الأولى في إحداث 11 سبتمبر وما أعقبه من اجتياح لأفغانستان والعراق وإسقاط أنظمتهما عنوة ولأسباب واهية.من هنا دخلت دولة إيران الإقليمية، والتي كانت تتحين الفرص، بتنفيذ العديد من برامجها المجمدة، فنشطت أيما نشاط فبثت عيونها وغرزت مخالبها متقدمة الجميع في الاشتراك مع الدول العظمى لرسم تلك الخارطة.حيث إنه قبل أحداث اجتياح العراق لا نعلم لها جناحاً خارج حدودها سوى جناح أمل الذي أصبح يعرف لاحقاً بحزب الله، وليس بالتأكيد الغاية من تأسيسه ودعمه هو درء خطر الكيان الصهيوني عن المنطقة بقدر السيطرة على رقعة جغرافية مهمة لأحد بوابات الوطن العربي عجزت لعقود عن تأسيسه عند البوابة الشرقية من العراق.ثم ما لبثت بعد انفراط عقد العراق وأصبح لها أحزاب ومليشيات بالعشرات، بسطت من خلالهم نفوذها جنباً إلى جنب مع القوات الأمريكية ثم امتدت لتخترق وتحكم العراق والشام ولبنان واليمن، وعينها طمعاً وتوسعاً صوب دول الخليج العربي، وكل ذلك بصمت مريب من الدول الكبرى، وأصبح ذلك يمثل إرهاب الجناح الصفوي الذي مازال طليقاً.على الطرف الآخر لم تكن أمريكا وحلفاؤها غافلين عما يحدث، ولم يكن ليجري كل ذلك إلا بعلمها، لكنها أجلت الكثير من مشاريعها وردة فعلها لأسباب؛ منها أنها لم تكن متوقعة حجم الخسائر الفادحة بالأرواح والمعدات والاقتصاد الذي تكبدته في الساحة العراقية، مما اضطرها لسحب أغلب قطاعاتها لامتصاص الغضب الشعبي المتنامي في ولاياتها، ثم ما لبث أن قام دهاقنة ساستها بإعداد خطة محكمة للعودة إلى ذلك البلد الأغنى عالمياً بموارده وموقعه، ولم يكن من السهل التنازل عنه لصالح دولة وقفت غصة تلك اللقمة الكبيرة في فمها.فبدأت بإعداد خطة ذات فصول متداخلة من الصعب على المتابع أن يدرك فصلاً منها أو يربط بينها، وجعلت لها شفرات مليئة بالألغاز، يقوم بالإشراف عليها خبرات من مخابرات ماهرة وحاذقة وأوكلتها لأدوات تنفيذية تحير المراقب وتربكه في ولائها وأهدافها.فاستقدمت خلاياها النائمة من المتشددين مظهراً وسلوكاً واللينين طاعة لهم وانقياداً، والذين أطلق عليهم لاحقاً اختصاراً «داعش»، والذين روضتهم وأعدتهم لمثل تلك المهام الجسام بحنكة التسييس، ورسمت لهم خارطة طريق دقيقة لا تتقاطع مع نهج إيران بقدر ما تحجمه، فليس بمقدورها بعد أخطائها الفادحة التي سهلت تمددها أن تقلصه أو تتفاداه وتعيده إلى مربعه الأول، لكن على أقل تقدير تعيد رسم وجوده وبما حققه من تقدم على الأرض استحقاقاً من وجهة نظرهم بحسن التعاون واقتناص الفرص التي كثيراً ما ضيعها العرب بقبولهم بموقع المتفرج وبجهلهم في مداخل ومكر وخديعة اللعب السياسي الذي ذهب ساسة إيران إلى مداه في الإتقان، وتلك ميزة لهم وهزيمة لنا يجب عدم إنكارها أو إغفالها لتكون منعطفاً ودرساً للأجيال... وللحديث بقية