يقع الكتاب الذي نعرض له بإيجاز في هذا المقال، والذي يحمل العنوان أعلاه في 121 صفحة، ومع ذلك فهو ينقسم إلى مقدمة وتمهيد وبابين رئيسيين ويشمل كل باب عدة فصول. فالباب الأول بعنوان استفادة المسلمين من الحضارة الصينية؛ ويضم أربعة فصول هي تطور الخبرات الملاحية، وتطور المعرفة الجغرافية، ونقل التراث العلمي، وأخيراً نقل الخبرات الاقتصادية. أما الباب الثاني فيحمل عنوان؛ استفادة الصينيين من الحضارة الإسلامية، ويضم ثمانية فصول هي؛ انتشار الإسلام، وتأثير اللغة العربية وانتشارها، زيادة المعرفة الصينية بالمسلمين وديارهم، انتقال تراث المسلمين الطبي إلى الصين، استفادة الصينيين من علمي الفلك والرياضيات عند المسلمين، استفادة الصينيين من تراث المسلمين في الهندسة والعمارة، استفادة الصينيين من خبرات المسلمين الإدارية، وأخيراً استفادة الصينيين من خبرات المسلمين الاقتصادية.وهنا ينبغي أن أشير إلى أن الخبرة المهمة للمسلمين اقتصادياً كانت في التجارة، بينما في الصناعة والاقتصاد فكانت أقل بخلاف الخبرة الصينية في الصناعة والمخترعات الصناعية فكانت أكبر، ولهذا ربما كان هذا الأمر هو الدافع وراء القول المنسوب للنبي صلي الله عليه وسلم «اطلبوا العلم ولو في الصين».التمهيد اشتمل على ثلاثة مباحث؛ نبذة عن أوضاع المسلمين السياسية والحضارية، ثم الصلات بين المسلمين والصينيين، وأخيراً موجز عن انتشار الإسلام في الصين. أما المقدمة فتركز على البعد الحضاري في التفاعل بين المسلمين والصينيين مع اهتمام بإبراز القوة الناعمة وهي التجارة في علاقات الطرفين. في حين أثارت الخاتمة نقطتين بالغتي الأهمية الأولى إن التفاعل بين المسلمين والصينيين كان تفاعل علم وحكمة ولم يكن تفاعلاً عدوانياً ولا عسكرياً، بل كان تفاعلاً سياسياً وسلمياً قام على مفهوم تبادل المصالح والتأثير المتبادل من الطرفين، أما النقطة الثانية فهي السؤال الذي طرحه المؤلف وترك الإجابة عليه للقارئ، وهو ماذا كان سيحدث في تطور البشرية لو أن الصينيين استفادوا بدرجة أكبر مما حدث من تقدم العلوم لدى المسلمين في المجالات العديدة وأهمها الطب والفلك والهندسة والعمارة والرياضيات، على نحو ما استفاد الغرب في عصر النهضة من الحضارة الإسلامية في هذه العلوم؟ورغم أن الكتاب يقع في 121 صفحة بالتمام والكمال فإن المتن يقع في 83 صفحة وتقع الحواشي (الهوامش) في 27 صفحة، والمصادر والمراجع في 7 صفحات، منها نصف صفحة فقط مراجع باللغة الإنجليزية. وإذا كانت كثرة المصادر والمراجع توضح مدى اهتمام المؤلف بالبحث والقراءة في الموضوع؛ فإن الحواشي تدل على مدى القراءة المتعمقة للمصادر والمراجع من خلال الإشارات المتكررة إليها في الهوامش، أي تدل على مدى حرص المؤلف على توثيق كل كلمة أو فكرة يتناولها في المتن.وبحكم كوني من المتخصصين في الدراسات الصينية ولا أترك كتاباً يحمل اسم الصين إلا واشتريته وقرأته أو على الأقل تصفحته بنهم شديد وبسرعة؛ فإن هذا الكتاب أثار اهتمامي لأكثر من سبب، أولها أنه يتناول قضية عزيزة إلى نفسي وهي التأثير الحضاري المتبادل بين المسلمين والصينيين، وثانيها أنه من الكتب القلائل ليس فقط باللغة العربية بل وأيضاً باللغات الأخرى التي تركز على موضوع التأثيرات الحضارية المتبادلة بين المسلمين والصينيين. وثالثها أن المؤلف هو أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية متخصص في مجاله، ويعرف ما يتناوله بالبحث بحكم ذلك، ورابعها أنني في عام 2007 تاريخ صدور الكتاب كنت مدعواً للمشاركة في مؤتمر التفاعل بين الحضارتين العربية والصينية في الرياض وكنت من المتحدثين الرئيسيين في الموضوع، لذلك قبل سفري وبعده كنت أبحث دائماً عن أي كتاب يتناول هذه القضية ووجدت الكتاب بمكتبة بالرياض عند مشاركتي في هذا المؤتمر.ونسوق فيما يلي عدداً من الملاحظات حول هذا الكتاب:الأول؛ أن التمهيد رغم إيجازه فإنه يقدم رؤية كافية عن أوضاع الصين الاقتصادية والسياسية منذ نشأتها في التاريخ منذ عام 2500-3000 قبل الميلاد، كما إنه يعرض بإيجاز أيضاً لأحوال المسلمين ومعاناتهم في معظم مراحل التاريخ الصيني، بخاصة في العهد الشيوعي الأول بعد وصول الشيوعيين للسلطة عام 1949. ولكن يمكن القول إن المعاناة لم تقتصر علي المسلمين وإنما شملت مختلف الأديان، لأن النظام الشيوعي في الفكر التقليدي ضد مفهوم الدين بل يعتبره أفيون الشعوب. والآن يتمتع المسلون في معظم مناطق الصين بحرية كاملة في ممارسة شعائرهم بما في ذلك إقليم سينجيان الحدودي، ما عدا من يلجأ للإرهاب أو يدعو للانفصال، وهذا مبدأ مرفوض من جميع الصينيين بل وجميع من يؤمن بمبدأ الدولة الوطنية، ويرفض دعوى الانفصال في أية دولة بما في ذلك البلاد العربية والإسلامية. المسلمون من قومية خوي يتمتع بكل ما يتمتع به الصينيون من قومية الهان التي تمثل الغالبية العظمي أكثر من 90% من السكان وكذلك مختلف القوميات الأخرى مع الاستثناء الذي أشرت إليه أنفاً.الثانية؛ خصص المؤلف الباب الأول من الكتاب لاستفادة المسلمين من الصينيين في مجالات الطب والصيدلة والملاحة البحرية وصناعة الخزف. ولكنه لم يتعمق فيما كان يمكن أن يستفيده المسلمون من العلوم والتكنولوجيا الصينية والفلسفة الصينية التي حدت بالمسلمين ليقولوا نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم اطلبوا العلم ولو في الصين. وكانت الصين أكثر تقدماً من غيرها من الدول عندما ظهر الإسلام، ويمكن أن نطرح هنا نفس السؤال الذي طرحه الدكتور حمود النجيدي في الخاتمة؛ ماذا كان يكسب العرب والمسلمين لو نقلوا فلسفة الصين وعلوم الصين كما نقلوا فلسفة اليونان الرومان وغيرهم. بالتأكيد كانوا سيكونون أكثر عقلانية خاصة في زماننا الراهن ويفكرون بمنطق مختلف، فأهم ركائز الفلسفة الصينية مبدآن هما التناغم والتوافق، ومن هنا تعد الصين أكثر الحضارات سلمية ولم تخرج غازية لأراضٍ أخرى كما حدث من الشعوب والحضارات الأخرى. أما بالنسبة لمبدأ التوافق واستيعاب الآخر فإنه كان يمكن أن يجنب المسلمين الصراع فيما بينهم بسبب الاختلافات المذهبية أو الطائفية أو حتى المدارس الفقهية ذات البعد الفلسفي مثل مدرسة المعتزلة الذين دعوا للعقل، وعندما أصبح مذهبهم هو المذهب الذي ترعاه الدولة في عهد الخليفة المأمون اضطهدوا خصومهم وفي مقدمته الإمام أحمد بن حنبل لأنه كان يقول بخلاف رأيهم في مسالة خلق القرآن، بينما الصينيون كانت المدارس الفكرية تتباري أو تتصارع سلمياً وتعيش الكونفوشية مع البوذية مع الطاوية وهكذا، ولعل الحكمة الصينية التقليدية قولهم «دع مائة مدرسة فكرية تتباري ومائة زهرة تتفتح». بالطبع سيطرة الفكر الشيوعي وخاصة أثناء الثورة الثقافية حتى وفاة الزعيم الصيني ماوتسي تونج تعد استثناء في التاريخ الحضاري الصيني.الثالثة؛ خصص الدكتور حمود النجيدي خصص الصفحات من 48 إلى 84 لعرض استفادة الصينيين من المسلمين، واتفق معه في أن الصينيين استفادوا من الحضارة والتقدم العلمي في الحضارة الإسلامية، ولكن ربما كان الباحث متحيزاً في المبالغة في مدى هذه الاستفادة، وخصص لها أكثر مما خصصه من الصفحات للاستفادة العربية من الصين. وهذا التحيز منطقي فالإنسان ينحاز لا شعورياً لحضارته مهما حاول أن يكون علمياً وموضوعياً ومحايداً. والصينيون استفادوا من التقدم في فن العمارة وعلوم الفلك من المسلمين ومن الإدارة الإسلامية عندما حكم بعض المسلمين العرب في بعض مناطق الصين، وهم لم ينكروا ذلك بل إن متحف الحضارة والثقافة العربية الإسلامية في مدينة شوانجو خير شاهد علي ذلك وهو متحف عظيم وربما لا نجده مثله ما يجمع حضارات وثقافات دول أخرى في بلادنا. ومرصد مراغة استفادت منه الصين كثيراً وأيضاً في فن العمارة، فالذي صمم القصور الإمبراطورية في بكين كان من المسلمين.ولكن الصينيين عانوا من الأسر التي حكمتهم وخاصة الحكم المغولي مثلما عانت البلاد العربية منهم ومن ثم نظروا لفترة ما نظرة سلبية تجاه المسلمين بخلاف نظرتهم تجاه العرب الذين كان اهتمامهم بالتجارة ونشروا الإسلام بلا عنف، والصينيون لا يحبون فكرة التبشير بل يرفضونها ويؤمنون باعتناق أي دين بموجب الاقتناع، ولا نجد في التراث الحضاري الصيني أنهم لا يبشرون بما لديهم ولا يحبون من يأتي إليهم ليبشر وإنما يتركون لكل فرد اعتناق ما يراه مناسباً، لذلك يعتنق المواطن الصيني أحياناً أكثر من دين أو عناصر فكرية وسلوكية من أديان متعددة، ومفهوم التوافق والتناغم هو المفهوم الأكثر تأثيراً في العقلية والثقافة الصينية.الرابعة؛ جمال اللغة وسلاسة الأسلوب الذي كتب به الدكتور النجيدي كتابه، فحين تقرأه لا تشعر أنك تقرأ كتاباً مملاً أو أسلوب معقد وإنما سلس وسهل، خاصة أن الفلسفة والحضارة الصينية مركبة، ولذلك فإنه ليس من السهل تحويلها إلى أسلوب سلس عند تناولها وهو ما يحمد للنجيدي.الخامسة؛ صدر كتاب النجيدي منذ ثماني سنوات أي 2007 وهو في هذه الفترة اكتسب مزيداً من المعرفة عن الحضارة الصينية، لذلك فإنني أدعوه لعمل طبعة جديدة من الكتاب به كثير من التفصيل في ضوء بعض الملاحظات التي أشرت إليها، فهذا سيعمق التفاعل الحضاري بين الصين والدول الإسلامية والدول العربية باعتبارها الحاضنة الرئيسة للإسلام. وحبذا لو اقتدى الأساتذة في مختلف الجامعات العربية والإسلامية بالنجيدي ونشروا مزيداً من المعرفة والتفاعل بين الحضارتين العربية والإسلامية وبين الحضارة الصينية.