أتاح المشروع الإصلاحي لجلالة الملك الفرصة لخطاب «المظلومية» الأحادي الذي يخاطب نفسه أن يظهر للعلن عبر صحيفة مرخصة وعبر جمعية سياسية مرخصة فيسمعه الآخرون، ولأول مرة منذ عشرات إن لم يكن مئات السنين يجد هذا الخطاب رداً ونقاشاً وجدلاً واستفساراً من أطراف خارج منظومته الفكرية.لأكثر من قرن من الزمان وليس لعقود أو لسنين بقي خطاب المظلومية كامناً في حاضنات داخلية محلية تمثلت في نتاج فكري كبير من مؤلفات مكتوبة ومن خطب مسموعة ومن نتاج فني ديني تم تداوله بغزارة وبشكل يومي داخل أروقة البيوت الدينية والثقافية الخاصة غذت فيه المنابر عقول أجيال وراء أجيال، ولم يتح لهذا الخطاب أن يتوجه للآخرين على مستوى شعبي غير نخبوي في مملكة البحرين تحديداً إلا مؤخراً أي بعد أن أقر المشروع الإصلاحي حرية التعبير وحرية تشكيل الأحزاب، فسارع أصحاب هذا الخطاب إلى تأسيس جمعيات سياسية وإلى الحصول على ترخيص جريدة، ولأول مرة يظهر خطاب المظلومية الداخلي إلى العلن عبر مقالات وعبر بيانات ويستخدم فيها وسائل تواصل حديثة نشرته على أوسع نطاق وتبدت ورطته ومأزقه حين قيض للآخرين الرد عليه وتفنيده، فسمع هذا الخطاب لأول مرة من يجادله في مسلماته.اعتاد أصحاب خطاب المظلومية أن يحسبوا كل صيحة عليهم، فبقوا في خندق وحصار فرضوه على أنفسهم لأجيال ولدى مفكريهم ومثقفيهم مؤلفات حول الأثر السلبي النفسي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي لهذا الخطاب على أصحابه، لكنها تحذيرات أطلقت على خجل واستحياء و لم يملك أصحابها الشجاعة للترويج لها وعرضها للنقاش العلني خارج نطاق طوقها فلم تحدث أثراً.اليوم يتعرض هذا الخطاب لأكبر مأزق نتيجة انتشار نطاق المساءلة والجدال على المستوى الشعبي لا النخبوي، الجدل اليوم ليس بين فقهاء وفقهاء ولا يختص وينحصر في الجانب الفقهي، بل اتسع نطاق الجدل ليطال مسلمات المظلومية التي تشربها أصحاب هذا الخطاب ومتلقوه لعقود، حتى المؤسسات الحقوقية أصبحت تحت المجهر والرقابة وخاضعة للمعايير الدولية في القياس وليست بدائية تأخذ بالاستماع للمدعين فقط بل هي اليوم مطالبة أن تتقصى الحقائق ومنحت لها كافة التسهيلات لأداء مهامها، لذا تجد أصحاب خطاب المظلومية اليوم يفسرون كل جدال لأفكارهم بأنه «حقد وكره وطائفية وبغضاء وحسد و ووووو»، اليوم كل سؤال يوجه لهم يطالبهم بدليل أو رقم أو مصدر للمعلومة يشاح عنه ولا يجد جواباً وينسى السؤال ويذم صاحبه ويبحث عن مؤشر للنيل من شخصه، كلما حشروا في زاوية المنطق غيروا الموضوع أو هربوا منه، تخاطبهم في المنطقة ألف يقفزون لك إلى المنطقة باء، إنها المرة الأولى التي تتعرض مسلماتهم و بديهياتهم وأفكارهم التي كانت لا تناقش ولا تفند لأول مرة تناقش علناً وتفند ويرد عليها بالدليل والرقم والمعلومة والإحصائية، وهذه هي البداية فقط، 12 عاماً فترة قليلة قياساً بما سبقها، 12 عاماً تواجه مسلمات رسخت لأكثر من قرن وانتقلت من جيل إلى جيل، لكنها مجرد البداية، الباب الآن قد فتح ولن يغلق مرة أخرى، لا عودة من جديد إلى فكر لا يخاطب إلا نفسه خاصة وأن هذا الخطاب يتعلق بأوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية للجميع لا لأصحاب الخطاب، انتقل الجدال اليوم على جميع الوسائل من فضائيات إلى صحف إلى وسائل تواصل اجتماعي ويشارك فيها الجيران جيرانهم والمعارف معارفهم والأصدقاء أصدقاءهم، يعيدون إرسال فيديوهات وصوراً يسألون فيها ويتجادلون حولها، هذه أجواء لم تكن موجودة سابقاً ووسائل لم تكن متاحة سابقاً.دعك من الفتاوى الدينية الشاذة والفكر الديني الشاذ فهذا يرد عليه فقهياً وعلميا عند كل الأطراف، اليوم أنا أتحدث عن خطاب «المظلومية الاجتماعية» الذي استند إلى الموروث الديني أكثر مما ارتبط بالواقع المعاصر، هذا الخطاب أصبح يفند ويفكك وأصبح هذا الخطاب مطالباًُ بعرض «مظلوميته» التي اعتبرها مسلمات بالدليل بالمعلومة بالإحصائية بالمنطق المقارن المعاصر، الخلاصة زمن خطاب المظلومية الأحادي انتهى.