مرت سنتان على عملية اغتيال العلامة المجدد محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله. ويفسر الكثيرون العملية أنها نتاج وضع سياسي فوضوي، وأن البوطي قد دفع ثمن موقفه السياسي؛ غير أن الوقوف قليلاً عند شخصية البوطي يعطي مؤشرات بأن الهدف الأهم من عملية اغتياله قد يتضمن أيضاً محاربة المنهج الفكري الذي يمثله البوطي وإرهاب مريديه.يجمع التكوين الشخصي للعلامة البوطي -رحمه الله- بين أصوله الكردية المختلطة بالتركية وأصل ميلاده في إحدى القرى التركية ثم نزوحه إلى دمشق في سوريا. هذه التركيبة متعددة المشارب التي تدل على تقبل الآخر والتعايش معه هي في حد ذاتها نموذج يتعين اغتياله، لأن الحرب التي تم زراعتها في الوطن العربي هي حروب الهوية المجتزأة. ويقوم المنهج الفكري للعلامة الراحل البوطي على تبني المذهب الأشعري الذي يُعمل العقل في كثير من قضايا الشريعة وهو مذهب على خلاف كبير مع المنهج السلفي بمختلف مدارسه، وخصوصاً الفروع المتطرفة مثل السلفية الجهادية. وتمثل علاقة البوطي بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد عاملاً من عوامل تخفيف الضغوط السياسية والاجتماعية التي مارسها النظام على التوجهات الإسلامية بعد أحداث حماة عام 1982م. إذ تمكن البوطي رحمه الله من إقناع النظام بقبول التحاق المنقبات للعمل في المدارس والدراسة في الجامعات، وببث قناة سورية للبرامج الإسلامية، وبتوجيه الأعمال الفنية الدرامية لتعزيز قيم المجتمع والحفاظ على الآداب العامة.ووقوف الإمام البوطي مع نظام بشار الأسد كان مبعثه، كما عبر رحمه الله، في خطبه وبياناته ولقاءاته التلفزيونية، التشكيك في الخارجين عن النظام وقدوم أغلبهم من الخارج وارتباط بعضهم بدول أخرى وانتهاجهم العنف سبيلاً لتحقيق غاياتهم، وتسليطهم سيف تصوراتهم الدينية على مخالفيهم. وقد وجد البوطي في سلوك هؤلاء حقداً على الشام تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً وأعلن غير مرة جلوسه معهم وإدراكه جهلهم بقضايا الدين وحماسهم للعنف فقط.والخلاف مع العلامة محمد سعيد البوطي رحمه الله قبل أحداث سوريا الأخيرة وأثنائها لم يتمحور حول علاقة البوطي بالنظام السوري، فلم يزعم أحد أنه استفاد أو تنفذ من خلال هذه العلاقة، فالزهد الذي عاشه الرجل، هو وعائلته، وانقطاعه للعلم والتعليم في الجامعات والمساجد لم يكن من أمارات علاقة السلطة بالدين، كما إن أطروحاته العلمية وأبحاثه المختلفة كانت تمثل إضافة علمية وقيمة تجديدية أشادت بها مراكز البحوث والمسابقات العلمية في الوطن العربي وخارجه. ولكن جوهر الخلاف والأداة التي كانت تستخدم في الهجوم على البوطي هي التشكيك في استقامة منهجه الديني وسلامة سريرته من النفاق. ومن يرجع إلى التسجيلات على (اليوتيوب) التي يهاجم فيها بعض المشايخ العلامة البوطي سيجد اتهامات بالضلالة والنفاق والزندقة والخروج عن المنهج القويم في دين الله، بل سيجد تحريضاً يصل إلى حد الصراحة على اغتياله.لا يحتاج الأمر منا إلى قراءة مؤلفات العلامة البوطي رحمه الله أو تحليلها أو عمل دراسة حول اتجاهاته الفكرية ومصادرها. يكفي أن نستمع لعشرات من دروسه المبثوثة على (اليوتيوب) في قضايا إسلامية واجتماعية وأخلاقية شتى والموجهة للتأثير في عامة الناس لنفهم الفكر المعتدل الذي يتبناه والاتجاه السمح الذي يعبر عنه والفئات البسيطة التي يحرص على تعليمها. ويكفينا أن نقوم بالعملية نفسها للعديد من مشايخ المساجد والزوايا الذين حاربوه وحرضوا عليه لنرى المنهج الإقصائي والتكفيري والأحادي الذي يعبرون عنه ويريدون الأمة أن تنزلق إليه.رحم الله العلامة محمد سعيد البوطي وأسكنه فسيح جناته. نحسبه عند الله شهيداً. فقد قضى آخر لحظات حياته معتكفاً في بيت من بيوت الله مع جماعة من المسلمين يقرؤون القرآن ويتدارسونه، وسقطت أولى قطرات دمه على مصحف شريف نسأل الله أن يكون شاهداً وشفيعاً له. ونسأل الله أن يعوض هذه الأمة خيراً وألا يبتليها برفع العلم والعلماء وشيوع الجهل وتسلط الجهلة.
Opinion
اغتيال الشهيد البوطي.. إرهاب للفكر المعتدل
26 مارس 2015