الثقافة الجديدة التي أفرزتها عمليات تصوير الأفلام الشخصية أخذت تنتج ظواهر «إعلانية» غريبة في الوطن العربي، فكسر حاجز الصمت والرغبة العارمة في التعبير عن الذات، وأحياناً، الهوس في الشهرة الزائفة؛ جعلت الكثير من «الناس» يبثون صوراً وأفلاماً شخصية لا معنى لها أو قد تحمل دلالات سيئة، والأسوأ من ذلك أن ترى تجاوباً غريباً من جمهور انحصرت اهتماماته في هذه القنوات التواصلية. وفي الفترة الأخيرة راجَ أكثر من «فلم شخصي»، وتساءلت؛ أيعقل أن صاحب الفلم هو من بثه على اليوتيوب؟ أم أن أحداً أراد الإضرار به فتولى عملية النشر والبث؟!.كم كان مفجعاً الخبر الذي تداولته وسائل التواصل الاجتماعي البحرينية عن قصة القط الذي تم حبسه وحرقه، وتصوير الجريمة ثم بثها في وسائل التواصل المختلفة؛ من أحرق هذا القط وتلذذ بحرقه؟ وما الجريمة النكراء التي ارتكبها القط؟استناداً إلى الرواية الأولية لوزارة الداخلية بأن الجاني، الذي تم التعرف عليه، اعترف بأنه قام بالجريمة انتقاماً من القط الذي هاجم الطيور التي يعكف على تربيتها أكثر من مرة!، وأنه نفذ الجريمة بالتشارك مع صديقه الذي زوده بمادة بترولية استخدمت لإشعال النار في القط، وأياً كانت مبررات «الغضبة العارمة» التي دفعت الشاب لهذه الجريمة، ألم يكن بالإمكان أن يهتدي الشاب إلى حل أكثر سلمية وأكثر إنسانية من تلك الجريمة البشعة؟ ألم يكن بإمكانه تأمين الأقفاص وجعلها محمية من مهاجمة أي حيوان كاسر حتى لو كان أسداً؟! ما الباعث النفسي الذي جعل الشاب يتجاسر ويحرق القط حياً ثم يجعله عبرة بالتصوير والبث؟!طبعاً، بالتأكيد، أن الشاب لم يكن يتصور أن تلك الجريمة ستوقعه تحت طائلة القانون وأنه سيحاسب عليها، ولكن يستوقفني في القصة استهانة الشاب ببث الفلم ونشره، كغيره من أصحاب الأفلام الشخصية غير الصالحة للعرض، ويبدو أننا أمام تغير في التركيبة الشخصية للفرد العربي نتجت عن التجارب العربية الكثيفة في عدة مجالات في المرحلة الأخيرة، أحد هذه المجالات انتشار مشاهد العنف بشكل غير مسبوق خلق حالة من التعايش معها التصالح مع وجودها، فكثرة الحروب والنزاعات التي اجتاحت المنطقة، وكثافة مشاهد القتل والموت وقطع الرؤوس التي تضخها وسائل الإعلام يومياً لابد أن تترك أثراً نفسياً غير سوي في الشخصية العربية، وأحد أفظع تلك المشاهد كان حرق الضابط الأردني معاذ الكساسبة وقطع رؤوس مجموعة من المصريين في ليبيا، اللذين تم إنتاجهما وإخراجهما بتقنيات عالية الجودة وبالغة التأثير.الجانب الآخر، وقد سبق التطرق إليه، هو تغير التوجهات الثقافية والاجتماعية في استخدام وسائل «الإعلام الجديد»، فالفشل الكبير الذي سقط فيه الإعلام العربي والإنتاج الثقافي المرئي والمسموع، والانكسار في مسار الثقافة العربية حالياً، خلق أنماطاً مسطحة وهشة من السلوكيات «الإعلامية الذاتية» لدى شرائح واسعة من الشباب، فقد صار هم الكثير منا أن يخبر الآخرين بأنه يتناول وجبة الإفطار في مكان معين وأنه اشترى سلعة ما من محل ما، وعجت شبكات التواصل الاجتماعي بالنكات والسخريات والمعالجات الغريبة للمشكلات اليومية والقضايا الاجتماعية والسياسية والوطنية، وتلك قضايا ثقافية كبيرة جداً لا مجال للخوض فيها في مساحة محدودة من الكتابة، ولن توفيها الدراسات المعمقة حقها من العلاج؛ لأن معالجتها هي في الأساس تتطلب معالجة مفردات الواقع الذي أنتجها.وبالعودة إلى جريمة حرق القط البحريني والأفلام «الشخصية» غير اللائقة التي بثها شباب بحرينيون، بعضها، على شبكات التواصل الاجتماعي، فنحن بحاجة إلى توعية إعلامية لفئة الشباب حول «أصول» استخدام تلك الشبكات، وحول مهارات صنع «الذات» وعرضها والترويج لها، فليس من اللباقة أبداً ولا من الكياسة أن يخرج علينا شاب بحريني يتفوه بكلمات نابية أو يكتب عبارات مسيئة، وليس مما تواضع عليه المجتمع البحريني أن يروج أحد لجريمته ضد حيوان أعزل ويجاهر بها، كل تلك السلوكيات هي دخيلة على ثقافتنا وتستدعي تدخلاً وحلاً من الجهات المختلفة ذات الصلة.