دخلنا الثلث الأول من شهر أبريل من عام 2015، بمعنى أننا دخلنا الربع الثاني من هذا العام، ورغم ذلك مازالت موازنة الدولة العامة للعامين 2015 و2016 لم تقر بعد، بل لم تسلم للسلطة التشريعية ولم يتم البت فيها حتى الآن!هذا التأخير يعني (وهي مسألة يعرفها الجميع) أن الدولة وقطاعاتها تسير أمورها بناء على ما تبقى من الميزانية السابقة للعامين 2013 و2014.المشكلة أننا لو جئنا لنبحث أسباب تأخر الميزانية رغم دخولنا مداها الزمني، فإن الأعذار عديدة، على رأسها طبعاً إجراء الانتخابات النيابية والبلدية وتأخير موعدهما عما سبقه من أربعة أعوام، إضافة إلى بدء عمل البرلمان في الشهر الأخير من العام الماضي، إضافة إلى التعديل والتغيير على التشكيل الوزاري ومجلس الشورى، وما أعقب ذلك من سيناريو نقاش وتمرير لبرنامج عمل الحكومة والذي أخذ حيزاً من الزمن.كل هذا مفهوم تماماً، لكن في المقابل ما يجب أن نستوعبه بأن الوضع الذي نحن فيه اليوم، في حالة عدنا للنصوص الدستورية ورأينا مدى التزامنا بها، يبين لنا بأننا غير ملتزمين بالمادة (109) من الدستور المعنية بالباب الخامس الخاص بالشؤون المالية، وهو ما يوصف بمخالفة دستورية بالنظر للنص المجرد ومعناه.البند (ب) من مادة القانون هذه يحدد مسؤولية الحكومة بشكل صريح وواضح بإعداد الميزانية وتقديمها لمجلس النواب قبل انتهاء السنة المالية بشهرين، أي أننا نتحدث هنا عن شهر أكتوبر على أقصى تقدير. وهذا ما لم يحصل لدينا هذه المرة، وسبقته مرات أخرى خلال الأعوام الماضية، لا ننهي فيها عملية التسليم والإقرار من قبل السلطتين قبل بداية السنة المالية الجديدة.ولذلك وجد البند (هـ) الذي يفيد بأنه إذا لم يصدر قانون الميزانية قبل بداية السنة المالية، يعمل بالميزانية السابقة إلى حين صدوره، وتجبى الإيرادات وتنفق المصروفات وفقاً للقوانين المعمول بها في نهاية السنة المذكورة.ما أريد بيانه هنا بأن هناك تأخيراً واضحاً وصريحاً، يتكرر دائماً، ولا يتسق مع ما تلزم به المواد الدستورية السلطتين المعنيتين بشأن الميزانية. ولو سلمنا جدلاً بأن تسليم مشروع الميزانية من قبل الحكومة للنواب تم في الموعد الزمني المحدد، هل سيتمكن النواب من إنهاء المناقشة وتمرير الميزانية بعدها في الفترة الزمنية المحددة لهم، أي بواقع شهر أو أكثر بقليل، المهم قبل بدء السنة المالية الجديدة؟!هناك أحداث تتداخل مع بعضها تبرر التأخير في التسليم، لكن هذا لا يعني التبرير للحكومة، بل يفرض توجيه الطلب بضرورة الالتزام بالموعد الذي حددته المادة الدستورية، لأن تأخير التسليم يقود لتسليم المناقشة بالتالي الرفض أو القبول من قبل النواب، والخبرة السابقة الطويلة مع المجالس السابقة (لا ندري حتى اللحظة حال المجلس الجديد مع ملف مثل الميزانية) يجعلنا نتوقع التعطيل كالعادة.الفكرة فيما نقوله هنا تتمثل بأن المشكلة تحصل حينما يتحول «الاستثناء إلى عرف»، بمعنى أن «العرف» في مسألة الموازنة يقتضي بتسليمها في الموعد الذي حدده الدستور، وأيضاً يقتضي مناقشتها والانتهاء منها قبل بدء السنة المالية الجديدة، لكن الحاصل بأن «الاستثناء» المتمثل بالتأخر في التسليم والتأخر في التمرير، جعل الدولة تمضي لتعمل قطاعاتها لأكثر من نصف السنة المالية الجديدة بما تبقى من الميزانية السابقة، وجعل قطاعات الدولة تجمد بعض مشاريعها «اضطراراً» لأنها لا تملك الميزانية (حتى اللحظة) لتبدأ فيها، بالتالي تعود بعض المبالغ من موازنات بعض القطاعات لوزارة المالية تحت تصنيف ميزانية المشاريع التي لم تنفذ!لو حصل وإن احتاجت السلطة التنفيذية ومعها التشريعية لحالة «استثناء»، فينبغي أن تكون لمرات محدودة، وعلى مراحل متقطعة ومتباعدة ومتفاوتة لا على «مراحل متتابعة»، إذ هنا مكمن الخطورة كما أشرنا، حينما يتحول الاستثناء إلى عرف.موازنة أي دولة، هي في أساسها أداة تخطيط، وطريق لتحقيق الأهداف، ووسيلة لتعزيز الرقابة، وفوق كل ذلك هي نبض الحراك المجتمعي، وكلما تأخرت الميزانية (بغض النظر عن تحميل المسؤولية لأي طرف) فإن المتضرر في النهاية هو نمو وحراك المجتمع وتعطل استفادة مواطنيه وقاطنيه.