ليس هنالك من حل جذري لواقعنا الإسلامي والعربي سوى العمل الجاد من أجل عودة خط الاعتدال في العالمين العربي والإسلامي، فانحسار هذا الخط طيلة أكثر من ثلاثة عقود ونصف، ترك فراغاً هائلاً جداً، حيث جعل من الخط المتطرف والمتشدد سيد الموقف.ما هو السبب الذي جعل المعتدلين ينزوون جانباً، وفي زاوية معتمة وخاملة داخل مجتمعاتنا الإسلامية؟ ولماذا اختفى دورهم في قضايا التنوير والإصلاح وتوعية المجتمعات العربية والإسلامية؟ ولماذا لم تدافع عنهم الأنظمة وتدعمهم لخلق المزيد من التوازن داخل مجتمعاتنا غير المحصنة أصلاً؟مع الأسف الشديد، ربما كان الصوت المتطرف طيلة المراحل والعقود الأخيرة التي مرت بها الأمة الإسلامية، هو الصوت المرتفع وربما المسموع، وما ساهم في تثبيت هذا الأمر داخل مجتمعاتنا العربية هو رفع اليد الرسمية عن دعم المعتدلين واحتضانهم، بل على العكس من ذلك، كانت الكثير من الأنظمة والحكومات تدعم الطرف المتشدد في سبيل تحقيق أجندات سياسية خاصة بها، إضافة أن الكثير من التيارات الإسلامية والسياسية وفي سبيل مصالحها الأيديولوجية، قامت بضرب الخط المعتدل ورجالاته من تحت الحزام، وفي أحيان كثيرة قامت بمحاربته أيضاً، فقط، من أجل عيون الخط المتطرف، الأمر الذي أدى إلى غياب الشخصيات المؤثرة من المعتدلين، داخل المجتمع.يضاف إلى كل ذلك أن قام المتطرفون باختطاف الدين ودمجه بالسياسة بطريقة قذرة، مما أدى إلى ظهور جماعات الإسلام السياسي من الأصوليين والجهاديين والتكفيريين وغيرهم من شتى المذاهب والملل، إضافة إلى أن الجماعات المعتدلة لم تقم بإنتاج نفسها عبر جيل جديد من المفكرين والعلماء المعتدلين، ممن يقوم بحمل لواء الاعتدال في العالمين العربي والإسلامي. نحن اليوم في حاجة ماسة وشديدة جداً لخلق شخصيات معتدلة ورزينة وعاقلة وفاعلة في الوسط الإسلامي، شخصيات تفكر بطريقة علمية وحضارية وأخلاقية، بعيداً عن لغات التكفير والكراهية والقتل وأكل الأكباد وسلخ الأجساد، نحن بحاجة لإعادة الروح للخط المعتدل في واقعنا الإسلامي القلق.من منا لا يتذكر عطاءات وإنتاجات المفكر الإسلامي الكبير الدكتور الراحل مصطفى محمود، وما له دور بارز في تحييد الدور الغرائزي والانفعالي في أوساط شبابنا العربي مع بدايات ما يسمى بعصر الصحوة في ثمانينيات القرن المنصرم، والذي تحول بفعل مجموعة من العوامل التي ذكرناها إلى عصر للفوضى والجمود والتطرف؟مصطفى محمود، هي الشخصية التي يجب أن يُحتفى بها في أوساط مجتمعاتنا التي شحنت بشتى قيم التطرف والكراهية، كما يجب إعادة الكثير من تراث المفكر الراحل، وذلك من خلال نشر كتبه وإحياء برامجه التلفزيونية التي كانت رافداً مهماً من روافد حركات التصحيح والتنوير قبل ظهور "بغال الصحوة" في عصرنا الراهن.مصطفى محمود، وبغض النظر عن مستوى اختلافنا أواتفاقنا معه في بعض الأفكار، إلا أنه كان أيقونة من أيقونات الفكر الإسلامي المعتدل، والخطاب الديني الممزوج بالعلمية والموضوعية، بعيداً عن الإسفاف والتحريض واختطاف العقول وبرمجتها وفق مشاريع سياسية ضيقة، فلقد كان الرجل مشروعاً نهضوياً يستحق التشجيع، لكن وللأسف الشديد، تم محاصرته وتهميشه ومحاربته من طرف بعض رجال الدين المتطرفين، مما أدى إلى انحسار صوته واختفائه النهائي من المشهد الإعلامي، حتى رحل الرجل من الحياة مخلفاً مجموعة كبيرة من الكتب العلمية والدينية الرصينة، وهو الشخص الذي رحل بصمت دون أن يلتفت إليه "الغوغاء" من الدينيين الجدد.ننصح شبابنا بقراءة مصطفى محمود بطريقة موضوعية للاستفادة من وعي الرجل وفكره، كما ننصح حكوماتنا العربية والإسلامية من إحياء دور هذا الرجل الشريف، صاحب العطاء الطويل. لكن، لعل الأهم من كل ذلك، هو خلق جيل من المفكرين والعلماء يحملون ذات الوعي وذات الرشد وذات المنهج، لرجل ظل يحارب الجهل حتى اغتيل معنوياً من طرف جهَّال هذه الأمة، إنه شهيد الكلمة والفكر.
Opinion
الاعتدال «مصطفى محمود نموذجاً»
08 مايو 2015