والله الشعب البحريني هو أفضل شعب يتعامل مع المصائب التي يعانيها ومع الظروف القاسية ومع الأمور المفاجئة، إذ أصبح التندر بأسلوب «المأساة الملهاة» أسلوباً بحرينياً أصيلاً.الناس وصلت لهذه الحالة بسبب فقدان الأمل في تحسين كثير من الأمور، خاصة تلك المعنية بملفاتها المعيشية، وهنا هل يلام المواطن وهو يرى بأم عينيه المتناقضات، خاصة في ما يتعلق بالموازنات والصرف والهدر المالي والتقارير الضخمة التي يصدرها ديوان الرقابة المالية، وحين يربطها بالتصدي لأي مقترح أو مشروع من شأنه إفادته بالرفض أو التعذر بعدم الإمكانية؟!الناس باتت تستذكر المقطع الطريف في «درب الزلق» حينما يقول سعد لأخيه حسين «عطوا الناس لحم»، فيرد عليه «بنعطيهم، وانت أخذ الفلوس، باغرقك فلوس»، وانتهت المسألة بعدها بإبدال لحم الخروف بلحم كلب، الأمر الذي اعترض عليه «غلام».في موضوع رفع الدعم عن اللحوم الحمراء «وبحسب المطلعين فإن رفع الدعم عن البيضاء قادم»، فإن الناس تائهة بالفعل تصدق من وتكذب من؟! تطمئن أو تقلق؟! تشكر الدولة أو تنتقدها بشدة؟! الأمور ضبابية وتحتاج لإيضاحات عاجلة، والمطلوب مسؤول يخرج على الناس يرد على استفساراتهم بشكل مباشر وواضح، ويشرح لهم كيف يكون في هذا القرار «استفادة لهم»!النواب أنفسهم ضيعونا بتصريحاتهم، رئيس المجلس يشيد بالقرار ويرى فيه مصلحة للناس، في حين نواب نشروا مواقفهم وتصريحاتهم وحتى فيديوهاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي ينتقدون القرار، وبعضهم وصفه بـ«المعيب»، وبعضهــــم اعتبــــره ضربة للمواطـــن. والغرابة هنا بأن الاستياء يصدر من نواب يملكون أدواتهم الدستورية في المساءلة والاستجواب وحتى طرح الثقة، ما يدفع للسؤال بشأن أين كانوا حينما مرر الموضوع؟!هناك رأي نيابي طيب للنائب محمد المعرفي بشأن البطاقة التموينية، والأهم ما قاله بشأن كيفية احتساب النسب والأرقام والمبالغ، وفي هذا الشأن نتفق معه، إذ هل لدينا إحصائيات دقيقة معنية بالمواطن البحريني ونسبة استهلاكه اليومي، والشهري والسنوي من اللحوم، بحيث يتم معرفة الآلية «العملية» التي تم بموجبها تحديد المبالغ؟!لربما الموضوع فيه خير للمواطن، لكن المعطيات الآن على الأرض تشير للعكس، هناك استياء نيابي، هناك استياء شعبي، هناك غموض يلف المسألة ولا توجد إجابات صريحة ولا يوجد شرح مستفيض بشأن كيف تكون الاستفادة، الصحافة تنتقد عبر بعض أقلامها، رسامو الكاريكاتير تعاملوا مع المسألة بالنقد الساخر، ما يعني أننا لو قارنا بين الإيجاب والسلب في المسألة لوجدنا أن الاستياء أكبر.في الصفحات الاقتصادية بـ«الوطن» يوم أمس آراء لرجال أعمال واقتصاديين يطرحون حلولاً للموضوع، ومن المهم أن نقف عند كلام رجل الأعمال عبدالله الكبيسي الذي رأى أنها فرصة لدعم الإنتاج المحلي ومنح المجال للمشتغلين البحرينيين باللحوم ليستوردوا اللحوم ويبيعوها بأسعار مخفضة، وكذلك دعمهم في مجال تربية الماشية، مبيناً بأن هناك مقترحات رفعت للجهات المسؤولة بالدولة وحتى الآن لا توجد ردود. وهنا نتساءل باستغراب، لماذا لا توجد ردود، أو لماذا تتأخر؟!نحن نتفق جميعاً على مصلحة المواطن، أليس كذلك؟! بالتالي لسنا على خلاف، لكن خلافنا حينما تقدم الأمور بصورة تدفع المواطن للقلق وتخلق لديه حالة من الهلع، ويسود الأمور الغموض وتنعدم الإجابات الصريحة الشافية، هنا مكمن الخلاف، فالمواطن لا يريد أن نواجهه بأحجيات وألغاز، يريد إجابات لأسئلته، يريد تطمينات بشأن عدم تضرره، يريد تحسين واقعه، يريد التقدم لا التأخر.ولماذا تكون ردود الفعل عنيفة لدى الناس إزاء مثل هذه الأمور؟! نجيب هنا إذ واضح بأن كثير من المسؤولين ليس ناجحاً في عملية استقراء الشارع ومعرفة ماذا يجول بخاطر ونفس المواطن.أترونها يا جماعة مسألة عادية جداً، حينما يقرأ المواطن ويطلع على تقارير عديدة للرقابة المالية تضم هدراً مالياً ضخماً يصل لعشرات الملايين، وبعدها يقال له بأن الحل لحفظ الميزان المالي للبلد يكون عبر التضييق عليه، أو عبر دفعه دفعاً للصرف بصورة أكبر من مدخوله الشهري الذي لا يزيد، بل ربما ينقص في ظل المعطيات المالية الحالية؟! أترونها مسألة عادية أن نقابل كل مشروع ومقترح يهدف لتحسين مدخول المواطن بالرفض لوجود عجز مالي في الموازنة، بينما نرى مشاريع ينفق عليها بالملايين وتمنح أهمية فقط لأن هذا الوزير أو تلك الوزيرة رأت ذلك، في حين لو سألنا المواطن عنها لما اعتبرها من أولوياته؟!مثل هذه الأمور تدرس بعناية فائقة، تدرس بالمسطرة والقلم وبالأرقام، ويؤخذ في الاعتبار تأثيرها على الناس، إذ عدم استقرار أي مجتمع يحصل حينما يضج الناس بحالهم المعاش.خبراء التخطيط الاستراتيجي لديهم معادلة ثابتة بشأن التطور الحضاري وتقدم الأمم، يرون بأن الدول المنجزة والمتفوقة هي التي تنجح في رفع مؤشر سعادة مواطنيها عبر تحقيق مطالبهم وتهيئة كافة الظروف المناسبة لهم للعيش الكريم والعمل والتطلع للمستقبل. بالتالي حينما يرتفع مؤشر السعادة عند الناس، نعرف بأن الحراك الذي تمارسه الدولة يتمحور حول المواطن ولا شيء آخر، هدفه في البداية والنهاية التفكير في كيف «نعطي» المواطـن لا كيــف «نأخــذ» منـــه أو نضيق عليه.مشكلتنا أننا وقعنا في كثير من الأخطاء السابقـــة، أخطـــاء خطيـــرة في رســم استراتيجية الاقتصاد وتوزيع الموازنات، والتهافت على المشاريع سواء أكانت ذات أولوية أم لا، ناهيكم عن الاستثمارات الخاطئة التي عانت منها صناديق التقاعد والتأمينات، ويضاف عليها الهدر المالي الموثق في تقارير الرقابة، وكل ذلك أخطاء بشرية لكثير من المسؤولين يد فيها سواء بضعف التخطيط أو انعدام الرقابة، أو عدم الاكتراث بالمواطن.المشكلة الأكبر، أنه حينما نضطر لتجرع «المر» لتسيير الأمور، تكون أسرع الحلول غير معنية بالمسؤولين ولا النواب ولا غيرهم، بل تكون الحلول أشبه بالضربة الفجائيــة القويــة التــي تأتـــي في رأس المواطن.نحب هذا البلد، ونريد الخير لأهله، لكن لا يجوز يا جماعة بأن تكون الحلول على حساب المواطن، وأن يتحول مؤشرنا إلى مؤشر تعاسة بدل مؤشر سعادة.لدينا فشــل في إيجاد الحلول، وهذا يقودنا للتساؤل بشأن العقول التي تقترح هذه الحلول، هل أصحابها سيتأثرون كحال المواطن، أو لنقل -بمناسبة الموضوع- هل سيأكلون لحوماً أقل مثلما سيأكل المواطن؟!
Opinion
اعطوا الناس «لحم»!
23 مايو 2015