«الليلة سوف أعلمكم فك وتركيب البندقية الذاتية.. لا أحد يفتح خشمه حتى أنتهي»، ولطالب ضباط بدوي مثلي في نهاية سبعينات القرن الماضي كان حديث مدرب الأسلحة السوداني ألغازاً يجب علينا فكها قبل تعلم مهارة فك وتركيب السلاح، فنحن نقف حوله في الساعة السادسة والنصف صباحاً، فهل سنبقى حتى الليل! و«الخشم»؛ تعنى لنا الأنف، فكيف سنتنفس إذا أغلقناه! وهل سنمسك البندقية بيد ونغلق الأنف باليد الأخرى؟! بعد تجاوز كاريكاتيرية المشهد عرفنا أن كلمة «الليلة» تعني «اليوم» عند الرقيب حسن من سرية التدريب السودانية في الكلية، و«الخشم» تعني «الفم».لقد أبهرت المهنية العالية في العسكرية السودانية قادة الجيش الكويتي حين وصلت سرية مشاة سودانية مكونة من 112 جندياً في أزمة قاسم في صيف 1961 ضمن قوات الجامعة العربية، من السعودية والأردن والجمهورية العربية المتحدة؛ بل إن أول قائد للكلية العسكرية في الكويت كان العميد الركن صديق محمد طه «14 مارس 1968 - 14 مارس 1972»، وامتد التعاون العسكري حتى هتك صدام نظام الأمن العربي 1991، فقفزت الخرطوم إلى معسكر «دول الضد» كما سميناهم في الخليج العربي، والكويت خصوصاً، لتقفز مرة أخرى إلى معسكر طهران في العقدين الماضيين،. تمتلك صيغة التحولات السابقة سهولة خطابية، لكن حقيقة الأمر كانت أعقد من ذلك، كنا نحن السبب بنفس قدر تحمل الخرطوم للجفوة، وما حدث أقرب إلى القول إن جثة كانت ملقاة بين دول الخليج والخرطوم، ولم يعرف أحد الطرفين إزاحتها طوال ربع قرن.قبل شهرين حلقت ثلاث طائرات سودانية من نوع «سوخوي 24» وبعض طائرات النقل واتجهت شرقاً فأحدثت دوياً في الإعلام فاق دوي اختراقها لحاجز الصوت فوق البحر الأحمر، فقررنا الوقوف ثانية مع ذلك الحدث لنقدم قراءة أخرى للمشاركة الجوية السودانية في عاصفة الحزم كالتالي:- بنفس سرعتها في التحليق استطاعت ثلاث طائرات سودانية رتق الشق في الثوب الخليجي - السوداني الأبيض الفضفاض، ولتقدير ذلك الإنجاز يجب أن نتذكر أنه قبل سنوات قليلة كانت السفن الحربية الإيرانية ترسو في ميناء بورتسودان المحاذي السعودية بانتظام؛ مثيرة امتعاض دول الخليج، والتي بدورها كانت تمنع تحليق طائرات الحكومة السودانية في طريقها لطهران.- وفي الطلعة الجوية نفسها مزقت الطائرات الثلاث ما تبقى من وشائج مهترية بين الخرطوم وطهران، وكانت ملامسة عجلات «سوخوي 24» للمدرج السعودي ختم انتصار للدبلوماسية السعودية والخليجية وابتعاداً عن محور طهران برمته، ففقدت إيران أكبر بلد أفريقي يساندها عبر علاقة قامت على تعاون عسكري - أمني أوضح من سواه من أوجه العلاقات الدولية.- أظهرت ثلاث طائرات درجة تأييد الشعب السوداني ووقوفه مع دول التحالف دفاعاً عن أمن الحرمين الشريفين ولاسترداد الشرعية في اليمن من أيدي جماعة باغية بدعم إيراني، وبتأييدها للتحالف العربي تعود الخرطوم لمحيط عربي. - بالعجمي الفصيح..إن من القصور عدم فهم التحولات السودانية، كما لم أفهم لهجة الرقيب حسن، وأن تنظر بعض دول الخليج لمشاركة السودان في عاصفة الحزم كموقف عسكري بمقابل اقتصادي، أو الاعتقاد أن الخرطوم ستطالبنا بإنتاج «عاصفة حزم 2» لتهب على دارفور. كما يقلقنا ألا تتمسك دول الخليج بالثوب السوداني بقوة؛ فقد عارضت طهران عملية عاصفة الحزم لكنها حرصت على عدم التعليق على مشاركة الخرطوم فيها. فهل وجدت طهران أن الملف السوداني يعيق تقربها من واشنطن؛ أم تنتظر فرصة سانحة؟ مراهنة على فشلنا في إعادة العلاقات الخليجية السودانية لسابق عهدها! ثم لماذا لا نكرر سيناريو عودة الخرطوم واعتباره محفزاً لجعل دول عربية أخرى مشاركة في التحالف العربي؟ قد يبدو الأمر مستبعداً إلا أنه ليس مستحيلاً.