الأحكام القضائية لها أصول في التفنيد، حتى تلك التي تتم خارج سياق قاعات المحاكم، أما تلك التي تتم في المحاكمات فلها أصول ويحكمها قانون للمرافعات، وهناك حق التقاضي مكفول وحق الحصول على كامل الدرجات في الاعتراض على الأحكام، فهناك الاستئناف والتمييز ومحكمة دستورية توقف الأحكام إن توفرت لدى المدعى عليه دلائل على عدم دستورية القانون الذي يحاكم على أساسه، هذا بالنسبة لكيفية تفنيد الأحكام داخل أروقة المحاكم.إنما خارج المحاكم وحين يتناول الرأي العام أياً من الأحكام تأييداً أو اعتراضاً أو تفنيداً، فهناك ضوابط مهنية وأصول في التداول «الإعلامي» للأحكام، حتى لا يصبح الأمر مجرد كلام في الهواء مرسل لا ضابط له يشكك في القضاء دون أن يحمل دليلاً أو نصف دليل ويترك التشكيك في أعلى السلطات وأرفعها قدراً، كلام مرسل لا يجوز توجيهه لأشخاص عادية فما بالك وأنت تتحدث عن السلطة القضائية.بشكل عام لست ممن يحبذ الحجر أو منع إبداء الرأي في الأحكام القضائية وتداعياتها بشكل مطلق، خاصة وأن نظام فصل السلطات قائم على مراقبة كل سلطة للأخرى، والسلطة القضائية -مع احترامي لها- تبقى في النهاية اجتهادات بشرية قابلة للجدل، خاصة وأن هناك مساحة واسعة تترك للقاضي ليمارس فيها اختصاصه يقرر بناء على تقديره الخاص تشديد الظرف أو تخفيفه ليصدر أحكامه، وهي مساحة ممكن أن تكون عرضة للنقاش نقاشاً موضوعياً لا يمس هيبة القضاء ومكانته.في النهاية وإن كان -برأينا المتواضع- إجازة التعبير والنقاش حول الأحكام القضائية وارداً إلا أنه على من يريده أن يلتزم بالضوابط والمعايير وأن يلم بها ويحيط بها.إنما لعجز القائمين على الصحيفة التي تناولت موضوع الأحكام القضائية الصادرة بحق الخلية الإرهابية والقاضية بعقوبات الحبس وسحب الجنسية، لعجزها عن النقاش القانوني والمهني والمنطقي والموضوعي والعقلاني والمسند بالدلائل والحجج والبراهين، ولغياب أبسط استحقاقات المهنية الإعلامية وغلبة الجانب «اللطمي» و«البكائي» على القائمين على سياسة هذه الصحيفة ولخبرة في ممارسة دور الضحية، ابتعدت الصحيفة عن المناقشة القانونية والموضوعية ابتعاداً يقارب من ابتعاد السماء عن الأرض، واكتفت حجتها في الاعتراض على الأحكام على أسس غريبة لا علاقة لها بعلم القانون ولا حتى بعلم الجرائم التي ارتكبتها تلك المجموعة.ومع تعاطفنا ومشاركتنا لمشاعر الأبوة أو الأمومة لذوي المحكومين وهي ذات المشاعر عند آباء وأمهات بقية المحكومين بالجنايات الأخرى، فلو أجريت لقاء صحافياً مع أم أو أب لمحكوم يقضي عقوبته لاتجاره بالمخدرات لسمعت ذات الشكوى المريرة وذات الألم والحسرة في القلب من أبيه أو أمه، إنما هذا التعاطف الإنساني المشروع والذي نشاطرهم فيه لا دخل له في تقييم الظرف الخاص بارتكاب الجرائم، لا بالتشديد ولا بالتخفيف، فلا تفصل الأحكام بناء على معاناة ذوي الجناة، كما لا تفصل الأحكام بناء على أن المحكومين إخوة، أو أن المحكومين ينتمون لقرية واحدة، أو أن المحكومين ينتمون لأسرة واحدة، كل تلك المؤثرات لا تدخل في الحسابات القانونية، هذه حسابات تجريها حين تريد أن ترسم شجرة العائلة، إنما ما دخلها في ثبات التهم الجنائية من عدمه، تلك مسلمات يعرفها أي شخص فما بالك بإعلامي يفترض فيه أن يتحلى بأبسط قواعد المهنة حين يخاطب الرأي العام ويفتح ملف الأحكام القضائية.إنما لأن المخاطب هنا ليس رأياً عاماً ولا حتى رأياً مهنياً متخصصاً ولا حتى -المخاطب هنا- رأياً أجنبياً كما جرت العادة، فالخطاب الموجه للسفارات له مصطلحاته وله أداوته التي لها وقع خاص على الأذن الغربية، إنما لأن المخاطب هنا هو رأي خاص جداً لا يخرج عن المحيط الصغير لمجموعة «الخلية» وهم الأسرة والقرية لإبراء الذمة أمامهم، فلم يستند إلا على قاعدة المظلومية والاضطهاد، فلم يقرب الخطاب صوب القضايا التي حوكمت هذه المجموعة على أساسها بل سماها «ظروفاً»، ولم يتناول التهم التي أسندت إليهم، وسماها «ادعاءات»، ولم يجر اللقاءات مع ذوي محكومين آخرين جردوا من جنسيتهم البحرينية بتهمة الانضمام لتنظميات إرهابية وذلك لأنهم ينتمون لمذهب آخر، قفزت سياسية الصحيفة على كل تلك المعطيات واكتفت بإلقاء تهم على القضاء بالانحياز والتعذيب واستناد القضاة على الاعترافات فقط بلا دلائل أخرى وكلها تهم شنيعة، رمتها الصحيفة بلسان ذوي المحكومين وانسلت على أساس ناقل الكفر ليس بكافر.صحيح أنه كما قلنا في بداية المقال إن مناقشة الأحكام القضائية جائزة وتحتاج فقط من الجهة التي تتصدى لها الالتزام بالضوابط المهنية، إنما تحتاج أكثر من ذلك إلى شجاعة ورجولة وثبات تبدي الرأي وتسنده لنفسها لا على لسان غيرها.
Opinion
التخفي وراء المظلومية في مناقشة الأحكام القضائية
15 يونيو 2015