لم ينسَ الأوروبيون في مفاوضاتهم مع اليونان كيف أن رئيس وزراء اليونان قد ضرب بعرض الحائط برنامج الإنقاذ المالي المقترح من قبل الدائنين، حيث بدلاً من قبوله طلباً من الشعب اليوناني من خلال استفتاء رفض هذا البرنامج اعتقاداً منه بأن رفض البرنامج من قبل الشعب اليوناني من شأنه أن يمكنه من الحصول على شروط تعاقدية أفضل.وفي الواقع فإن العكس هو الذي حصل حيث شعر الأوروبيون بفقدان الثقة في تعاملهم مع الحكومة اليونانية التي في اعتقادهم حاولت ابتزازهم من خلال الاستفتاء. ولذلك بدأ الأوروبيون في المفاوضات الأخيرة بأخذ مواقف أكثر تشدداً هذا في الوقت الذي تراجعت فيه الحكومة اليونانية عن مواقفها السابقة وأصبحت نتيجة للتدهور المتسارع للأوضاع المالية مستعدة لقبول ما رفضته سابقاً.وبالفعل فإن ما تم التوصل إليه مؤخراً من تسوية بين اليونان والمجموعة الأوروبية يتضمن حسبما يبدو شروطاً أقسى بكثير مما تم عرضه على اليونان قبل لجوء الحكومة إلى الاستفتاء . فبالإضافة إلى موافقة اليونان هذه المرة على إجراء إصلاحات هامة في نظام التقاعد وتوسيع قاعدة ضريبة القيمة المضافة، استطاع الأوروبيون كذلك فرض شروط جديدة منها الإشراف المباشر لصندوق النقد الدولي على تنفيذ هذه الإصلاحات وضرورة إنشاء اليونان لصندوق بما يعادل قيمته حوالي 58 مليار دولار من الأصول التي تمتلكها الحكومة اليونانية لخصخصتها واستخدام حصيلة هذه الخصخصة في تسديد ديونها. وفي الواقع لم تكتفِ المجموعة الأوروبية بهذه الشروط بل ربطت مباشرتها للمساعدة المالية المطلوبة بإقرار التشريعات الخاصة بهذه الإصلاحات من قبل البرلمان اليوناني. وخلال هذه الفترة سيتم تقديم تمويل قصير الأجل لسد الاحتياجات الماسة والعاجلة لليونان على أن يتم توفير التمويل الأكبر على ضوء تطور هذه الإجراءات.أما موضوع إعادة هيكلة ديون اليونان والتعامل مع مسألة استدامة الدَّين بشكل عام فلم يتم التوصل إلى اتفاق بشأنه واتجه الرأي إلى إمكانية بحثه فيما بعد على ضوء أداء الإجراءات الإصلاحية التي تم الاتفاق عليها. في الحقيقة لم يكن أمام كل من اليونان والمجموعة الأوروبية غير التوصل إلى تسوية بشكل أو بآخر حيث إن البديل المتمثل في خروج اليونان من منطقة اليورو هو بمثابة انتحار بالنسبة لليونان وهو من شأنه في نفس الوقت أن يمثل ضربة قاصمة لمشروع التجمع الأوروبي. على صعيد اليونان فإن الخروج من منطقة اليورو سيترتب عليه تدهور حاد للأوضاع الاقتصادية حيث ستضطر اليونان لإصدار عملتها الخاصة «الدرخما» والتي من المتوقع أن تفقد نصف قيمتها الشرائية التي تتمتع بها العملة المتداولة حالياً. وطبعاً مثل هذا الانخفاض الكبير في قيمة العملة وإن كان سيساعد في المدى الطويل على زيادة تنافسية السياحة والصادرات اليونانية، إلا أنه سيرفع من مستوى التضخم إلى ما يزيد عن 35% في شكل ارتفاع فاتورة الواردات. بالإضافة إلى أن خروج اليونان من منطقة اليورو من شأنه أن يؤدي إلى انكماش الاقتصاد اليوناني بما لا يقل عن 8%. على صعيد المجموعة الأوروبية فإن خروج اليونان يمثل خسارة مالية كبيرة لكن يمثل خسارة معنوية أكبر. من الناحية المالية فإن خروج اليونان من منطقة اليورو يعني عجز اليونان عن تسديد ديونها تجاه الحكومات الأوروبية وتجاه البنك المركزي الأوروبي والتي تقدر بحوالي 340 مليار يورو وهو ما يزيد عن 3% من الناتج الإجمالي المحلي لمنطقة اليورو. ومثل هذه المبالغ الباهظة هي في الواقع أكبر بكثير من مستوى الإعفاء المطلوب لجعل ديون اليونان قابلة للاستدامة، لكن بالنسبة للمجموعة الأوروبية فإن الاعتبارات الأهم هي في الواقع سياسية أكثر منها مالية، حيث إن خروج اليونان من منطقة اليورو يمثل انتكاسة كبيرة غير مسبوقة لمشروع التكتل الأوروبي. ولذلك فإن التخوف لدى الأوروبيين هو في أن خروج اليونان يمكن أن ينظر إليه كفشل ذريع لسياسة المجموعة الأوروبية في التعامل مع التحديات المترتبة على محاولة تحقيق التنسيق والاندماج للدول الأعضاء في التكتل الأوروبي. على كل حال، ففي اعتقادي أن الموضوع الشائك في العلاقة بين اليونان والمجموعة الأوروبية لا يبدو بأنه قد انتهى حيث ما تم الاتفاق عليه هو مجرد إطار عام لمشروع اتفاق وستتضح الصورة بشكل أفضل خلال الفترة القادمة من خلال إجراءات تطبيق ما تم الاتفاق عليه فيما إذا أمكن للطرفين وبخاصة الطرف اليوناني التغلب على الصعوبات التي تعترض تنفيذ مثل هذا الاتفاق حيث لا نستبعد أن تواجه اليونان صعوبات كبيرة تشريعية وسياسية واقتصادية في طريق مباشرة تنفيذ هذا الاتفاق وبالتالي يصبح ما تم التوصل إليه لا يعدو أن يكون تأجيلاً لحل مشكلة اليونان أكثر منه معالجة نهائية