من كان يستبعد الاتفاق الذي حصل بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية في وقت سابق، ويستغربه الآن، فهو يعاني من مشكلة في استيعاب الأسس الثابتة للإدارة الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة، رغم أن المبدأ لم يتغير؛ إذ «ليست هناك صداقة دائمة، بل مصلحة دائمة».حتى إيران نفسها، والتي عاشت في جلباب أفكار مرشد الثورة الإيرانية الإسلامية الشيعية في عام 1979، حتى مع تولي علي خامنائي زمام الأمور، هاهي تتخلى عن كثير من الثوابت لديها بشأن العلاقة مع الأمريكان، فتحولت من أطلق عليها مرشدهم الأول الذي أطاح بحكم الشاه بمساعدة الأمريكان، تحولت من «الشيطان الأكبر» إلى «الشريك الأكبر»!رغم أن بنود الاتفاق واضحة، وخاصة تلك المعنية بحظر إنشاء القنبلة النووية، ورفض امتلاك إيران لهذا النوع من الأسلحة، إلا أن أرضية الاتفاق تمهد لذلك بسهولة، خاصة وأن رفع الحظر يعني إعادة إسالة مليارات الدولارات الإيرانية المجمدة، وفتح الباب لتصدير اليورانيوم والماء الثقيل وما له علاقة بصناعة الطاقة النووية، ورغم شروط الأمريكان في الاتفاق والتي توحي وكأنها وضعت لتقيد أو تحيد «الطموحات» الإيرانية، إلا أن كل هذه القيود قابلة لـ»الكسر بسهولة»، وهي مسألة متوقعة، لذلك تجدون صيغ التلويح الأمريكية واضحة.لكن بغض النظر عما هو معلن وظاهر، وعن موقف الطرفين، البحث هنا عما يختفي خلف ذلك، عما وراء الأكمة، وهل هذا المخفي يحمل ضمن طياته ما فيه ضرر على منطقة الشرق وعلى منطقة الخليج العربي تحديداً؟!هذا هو السؤال، وترديده سيزيد، خاصة حينما نعلم بأن أول تحركات للرئيس الأمريكي باراك أوباما تمثلت بإجراء اتصال من على متن طائرته بالملك سلمان بن عبدالعزيز وكأنها محاولة «توضيح» لازمة وحتمية للقوة الإقليمية المقابلة لإيران في المنطقة، وبالتأكيد كانت هناك محاولة تطمينات ووعود وتعهدات بأن أمن الخليج العربي لن يمس، وأن الولايات المتحدة ستظل على عهدها رافضة للإرهاب الذي تصدره إيران، في حين التحرك الثاني تمثل بتهديد صريح ومباشر من الرئيس الأمريكي لأعضاء الكونجرس وللنواب الجمهوريين بالأخص بأنه سيستخدم حق النقض الخاص به إن حاول بعضهم إعاقة تفعيل الاتفاق. في جانب ثالث كان لابد للبيت الأبيض أن يحاول احتواء «الغضب الإسرائيلي» الصريح من علاقة «التقارب» هذه، حتى أن نتنياهو صرح بلا تردد بأنه وبمنتهي البساطة يمكنه إصدار أوامر باستهداف المنشآت النووية الإيرانية.لكن بغض النظر عن كل ذلك، نعود ونذكر بشأن معادلة «المصلحة الدائمة» وليست «الصداقة القائمة»، إذ الصداقات الأمريكية تتبدل وتتغير في لحظة، فالأمريكان صادقوا الأفغان ودعموا أسامة بن لادن في الحرب ضد القوات السوفيتية، ثم انتهت الأمور باحتلال أمريكي لأفغانستان بذريعة محاربة «القاعدة» وقتل زعيمها بن لادن، والاثنان صناعة أمريكية بحتة. فعلوا الشيء نفسه مع صدام حسين في حربه ضد إيران ودفعوا الخليج للدخول في المعمعة، ثم كانوا سبباً في اجتياحه الكويت، وكانوا هم أصحاب العلاج في طرده منها، ثم احتلال العراق انتهاء بإعدامه. وهم أساس موجات الربيع العربي وإثارة الفوضى الخلاقة، والآن يتردد بأن «داعش» نفسها صناعة أمريكية حالها كحال «القاعدة».البيت الأبيض أكثر من «يبيع» صداقاته، بناء على مصالحه، واليوم إن أمعنا النظر فإن المعادلة الأمريكية المعنية بالشرق الأوسط لتحقيق مصالحها سيخدمها أكثر إعادة إيران كلاعب هام في سوق النفط والتصدير وتحريك المليارات في الخارج، لكن مع ضرورة ضمان ألا تتحول إلى «وحش» أطلق سراحه ولا يمكن ترويضه، إذ لن يقبل لإيران بأن تصبح مثل وحش «فرانكشتاين» إلا بموافقة أمريكية. وهنا المسألة ذات الخطورة القصوى. إذ هل تضمنون بألا تحرك واشنطن إيران تجاه الخليج؟!فرضيات عديدة ستطرح، وقراءات أكثر، وسيناريوهات لا تنتهي سترسم، لكن كلها لن تكون ذات أهمية لو قامت دول الخليج العربي بخطوة واحدة، خطوة طالبنا بتفعيلها مراراً منذ أن طرحت على لسان المغفور له الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله، فكرة الاتحاد الخليجي وما تتبعه من وجود جيش خليجي موحد، وإرادة واحدة، ومواقف واحدة، تجعل من يطمع بنا سواء أكان الأمريكان أوغيرهم، ومن يحاول رسم مخططات ووضع أجندات تستهدف الخليج وأمن المنطقة، تجعله يفكر ألف مرة قبل أن ينفذ ما يدور في رأسه.عموماً، الموقف الآن يستدعي توجيه التهنئة للرئيس أوباما الذي حصلت في عهده تطورات خطيرة، وبالتأكيد هو فرح، فبعد فرحه قبل أسبوعين بقانون «زواج المثليين» في أمريكا، هاهو اليوم فرح بتحول أمريكا من «الشيطان الأكبر» إلى «الشريك الأكبر»!