في مثل هذه المواقف الملتبسة يتعين، أحياناً، على المرء أن يذعن ويقدم أوراق اعتماده كأحد رافضي الاستعمار الصهيوني لفلسطين. ويعبر أنه يرفض كل الممارسات الإجرامية للكيان الغاصب وأنه ضد أي إجراء قد يخلق تقارباً عربياً صهيونياً على أي مستوى، وإن كان قد وقع فعلاً رغماً عن إرادة الشعوب. ففي المنطقة الرمادية التي تسقط فيها الأمم حين تضعف يصبح التشويش سيد المعرفة والموجه الرسمي لها، ولا يعود ثمة من رابط بين الآراء المتلاطمة إلا التعويل على النوايا الحسنة لقبول أي رأي قد يكون مخالفاً أو صادماً.مناسبة هذا التقديم هو عدم قناعتي باستفاقة العرب، المفاجئة، على جريمة حرق الطفل علي دوابشة واستنكارهم مشهد جثة الطفل محروقة وصورة نعشه الضئيل مسجى في كفن لا يتجاوز نصف متر. كما أنني أتعجب من انتفاضتهم التي انتفض العالم لها وأبدعوا في مسيراتهم ضد حرق الطفل باستخدام الدمى المحروقة والأكفان الممزقة.بكل صدق؛ لا أعرف لماذا استفاق العرب من غيبوبتهم! وما الجديد في منظر طفل محروق في زمن الحريق العربي! وما أكد «منطقية» استغرابي أن العرب سرعان ما عادوا لسباتهم ونسوا جثة الرضيع المحترقة، وأن سعد دوابشة، والد الطفل المحروق، توفي بعده بعدة أيام ولم يستفز بموته غيبوبة العرب! ومن تابع ردود الفعل العربية «السمجة» غاية السماجة يدرك تماماً أنها ردة فعل توقفت عند صورة رفع جثة الرضيع محروقاً، وأنها لم تتجاوز الصورة إلى أسباب الحرق ولم تمتد، ولو عاطفياً، إلى مأساة الأسرة التي توفي والدها ومازال يخضع الابن الأكبر لعلاج مكثف بسبب إصابته بحروق من الدرجة الأولى! والأسوأ من كل ما سبق أن المسجد الأقصى تم اقتحامه من قبل المستوطنين بعد جريمة حرق منزل عائلة دوابشة بيومين، وقبل ذلك تم اقتحامه مرات عديدة، ولم ينتفض العرب. فلماذا فزّ العرب من نومهم لهذا الكابوس البسيط؟!أتصور أن الكثيرين لا يعرفون أن حرق الرضيع الفلسطيني كان في الحقيقة حرقاً لمنزله في قرية دوما بنابلس، وأن عملية الحرق قام بها مجموعة من المستوطنين المتطرفين بعد قرار المحكمة الإسرائيلية هدم مبنيين إسرائيليين تمت إقامتهما في إحدى المستوطنات، أعقبه إعلان نتنياهو بناء مساكن جديدة في المستوطنة نفسها. وبعد قرار المحكمة أقدم مجموعة من المستوطنين على حرق منزل علي دوابشة برمي زجاجات حارقة وكتبوا عبارات انتقامية على جدران المنزل. فالقضية كلها إذاً ذات علاقة بالشد والجذب داخل الإدارة الإسرائيلية حول عمليات الاستيطان تقدماً أو تراجعاً. بالتالي فإن غضب العرب كان يجب أن يوجه للعملية الاستيطانية وليس لحرق الرضيع دون معرفة سبب الحرق. وبما أن الذي أزعج العرب هو حرق الرضيع لأنه رضيع، فبمنتهى البساطة، على إسرائيل أن تستمر في عملياتها الاستيطانية ولكن.. دون حرق الرضع. عليها الاستمرار في الإجراء القانوني الذي تتبعه وهو إبلاغ الأسر الفلسطينية بوجوب مغادرة منازلها بأمر من المحكمة وإرغامها على الخروج ثم تفجير المنازل وهدمها وتشريد أهلها الفلسطينيين ثم بناء المستوطنات. وبهذا الإجراء الإسرائيلي التقليدي تضمن إسرائيل عدم استفزاز المستوطنين المتطرفين وتضمن عدم ردة فعل «سمجة» من العرب.. بسيطة يا عرب!!والآن أستطيع أن أعبر بصراحة عن خيبة الأمل والإحباط الذي شعرت به نتيجة النفضة العربية غضباً لحرق الرضيع علي دوابشة. فالعرب ينفجرون مع كل بالونة اختبار يتم قذفها في الهواء. ويسيرون خلف كل مؤشر يرسم لهم على قارعة الطريق. فحين تنازل العرب عن قضاياهم الكبرى المتمثلة في رفض احتلال فلسطين وتشريد أهلها، ورفض تدنيس المسجد الأقصى، ورفض القبول بالكيان الغاصب وسط الجغرافيا العربية، ورفض عمليات تهويد القدس. وحين انجر العرب خلف صراعاتهم الجانبية وتخلوا عن القضية الأم، صار طبيعياً أن يقايضوا فلسطين كلها برضيع واحد.ولا يعني كلامي الاستهانة بقتل إنسان أو طفل فلسطيني أو عربي، ولكن ثمة إعادة منهجة للصراع العربي الإسرائيلي في المنطقة وإعادة صياغته ليتقزم في أسوأ حالاتها إلى استنكار «جريمة جنائية»، وهي قتل طفل حرقاً، ويتم تجاهل جريمة وطنية وقومية يجري تدبيرها دون أدنى استشعار من العرب. مشكلتنا في الوطن العربي هي المشروع الصهيوني الذي ولد كل المشكلات الفرعية. والجريمة الكبرى التي وقعنا ضحيتها هي جريمة احتلال فلسطين وتأسيس الكيان الصهيوني الذي لا فرق عنده بين حرق رضيع أو حرق قرية كاملة بمن فيها. ولن نجد حلاً لأي مشكلة «قارة» أو طارئة ما لم نتفق على حل قومي وإنساني للقضية الفلسطينية.