أتذكر جيداً حديثاً دار بـ «حرقة قلب» في مجلس صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان رئيس الوزراء حفظه الله قبل سنوات. كان يتبادل الحديث معنا ككتاب وصحافة عن الكفاءات الوطنية بالأخص الشباب المؤهل المتعلم المتميز، وكيف أنه يضايقه حينما يعلم بأن هناك كفاءات تخرج من البلد، وأن بعضاً منها يستقيل من الحكومة.الحديث كان صريحاً مع سموه -كما هي العادة- فخروج الكفاءات من أي قطاع يعني أشياء كثيرة، والأسباب عديدة لو تم عدها وإحصاؤها، إلا أن الخلاصة -في قناعتي الشخصية- تكمن في أن هذه الكفاءة أو تلك لم تخرج إلا لأنها لم تجد أمامها سبيلاً سوى «الخروج».أتذكر الحديث هذا جيداً كل يوم، خاصة حينما تمر علي حالات فيها طغيان لإحباط مهني هنا، أو بحث عن بدائل هناك، أو سعي حتى للخروج من البلد، من قبل بعض الشباب المؤهل علمياً ومهنياً، حالات أرى فيها خسارة فادحة للوطن، وأعتبرها «كارثة» حقيقية لا يجب السكوت عنها.لذلك دائماً أقول بأن الأجهزة المعنية عليها مسؤولية متابعة حركة الاستقالات في الحكومة، وطلبات الانتقال من وزارة لأخرى، أو حركة الترقيات والحوافز وغيرها، خاصة وأن هذه الجزئية الأخيرة فيها من «مساحة اللعب» الكثير بحسب «مزاج» بعض الأمثلة السيئة من المسؤولين. هذه المتابعة بإمكانها كشف الكثير، إذ لماذا تستقيل الكفاءات؟! ولماذا من هذه الوزارة بالذات، بالمقارنة مع الوزارات الأخرى؟! لماذا هناك طلبات انتقال من هذا القطاع بالتحديد؟! أو لماذا هناك رغبة في الخروج من البلد والبحث عن العمل في الخارج؟!كلها أسئلة تطرح، وإجاباتها سهل الوصول لها؛ لأننا نتحدث هنا عن مراقبة أرقام ونسب موثقة وموجودة بالضرورة في تقارير ومراسلات ديوان الخدمة المدنية، حتى الترقيات والحوافز يمكن رصدها وتحليلها سواء أكانت وفق «نمط قانوني» أو وفق «نمط جنوني» بالنسبة لوزارات معينة أو أفراد معينين.من يؤمن بعلم الإدارة «فعلاً» لا «فقط قولاً»، يدرك تماماً بأن أحد أهم مفاتيح النجاح لأي منظومة يتمثل في طريقة إدارتها، وفي رأس هرمها، وعلم الإدارة بجميع فلسفاته ونظرياته يؤكد على أن «هروب الكفاءات» من مكان «معين» لا يعني سوى شيئاً واحداً، هو ضعف الإدارة فيه، بالأصح سوء الإدارة إن كنا نريد الدقة.حينما يكون لديك قسم صغير يضم فيه عدداً من الكفاءات الشابة الطموحة والمتعلمة، ويبدأ عددها يتناقص بالخروج من المؤسسة أو طلب الانتقال من القسم. ماذا يعني هذا؟! الإجابة البديهية هنا تبين بأن هناك خللاً ما في القسم نفسه، وهنا تكون المساءلة لرئيس القسم، وغالباً ما تصح النظرية بأن «طريقة الإدارة» من قبل المسؤول تحول المكان إلى «بيئة طاردة».لدينا في هذا البلد عدد لا يستهان به من أصحاب المناصب الذين يبرعون ويبدعون في تحويل أماكن عملهم لـ «بيئات طاردة» للكفاءات وأصحاب المؤهلات، لدينا عدد ممن «ضاعت البوصلة» لديهم، فظنوا أن الإدارة الصحيحة تكمن في «تحطيم» الطاقات الكفوءة، إما لأنه يصعب «تطويعها» وجعلها ضمن «جوقة الحاشية» أو لأنها حينما ترى الأخطاء تتحدث وتنتقد باعتبار أن هذه القطاعات ملك للدولة وأي تكتم على أية أخطاء هي «خيانة للدولة»، وللأسف هذا يحصل.هذا الحديث استكمل به مقال الأمس، وأزيد عليه بأن الحكومة مسؤولة اليوم عن «تقويم» وضع مثل هذه القطاعات، الحكومة مسؤولة عن محاسبة كل مسؤول «انحرف» في أسلوب إدارته وحول المكان لملك خاص، وخلق حوله حاشية وجوقة، وأخذ يمارس أسلوب الإحباط والتحطيم لأي كفاءة يرى فيها تهديداً لاستمرار هذه الحالة الخاطئة.يحصل لدينا هذا للأسف، وهناك الكثير مما خفي، وهو أعظم، وعليه لا مبرر يقبل استغراب كبار المسؤولين حينما يسألون «لماذا تهاجر كوادرنا»؟! و«لماذا نخسر طاقاتنا الوطنية»؟! ولماذا تزيد طلبات الاستقالة؟! ولماذا يفضل الناس القطاع الخاص على العام؟! ولماذا نسبة عدم الرضى الوظيفي في ازدياد مخيف؟!أسترجع حديثنا مع سمو رئيس الوزراء قبل سنوات عن هذا الموضوع، وأتذكر حرقته على خسارة أي كفاءة وطاقة بحرينية شابة، وأهمس في أذن سموه قائلاً: كيف لا يا صاحب السمو، وهناك من يحطم هذه الكفاءات؟!