كيف نتوقع من أهالي القرى ألا يحسبوا حساباً لرجل دين يعتلي المنبر الديني ويدعو لسحق رجال الأمن من على المنبر الديني؛ في حين أن الدولة تحسب له حساباً؟كيف نطالبهم بأن يتمردوا على سطوة لرجل الدين وقفت حاجزاً بينهم وبين الانخراط في مشروع الدولة والدولة هي من وضعته في خانة المرفوع عنهم القلم؟الدولة هي من ساهمت في رسم هذه الهالة والقدسية الزائفة ومنحته حصانة مكنته من لعب دور أساسي في بناء تلك الحواجز بين مريديه وأتباعه وبينها، وليست المعتقدات الدينية وحدها من منحته هذه الحصانة.لقد لعب هو وغيره من رجال الدين دوراً أساسياً في رسم شكل وطبيعة الدولة التي يسمح لأهالي القرى بالانخراط في مشروع بنائها، وبالتأكيد لم تكن مملكة البحرين هي تلك الدولة.دولة افتراضية ليس للمواطن فيها أي التزامات ولا واجبات تجاهها، دولة، المواطنون فيها لا يقدمون أي ولاء للنظام السياسي ما لم يكن هذا النظام ثيوقراطياً دينياً معصوماً، دولة لا يجري الحديث فيها إلا عن الحقوق والمظالم ولا يبحث فيها عن مبادئ احترام النظام والقانون. داخل تلك القلاع كانت ماكنة صناعة السخط تعمل بلا كلل عبر خطاب إسقاطي ثوري تاريخي دائم يرضعه الصغير منذ نعومة أظافره إلى أن يكبر فلا يرى في النظام إلا معسكراً يزيدياً، ولا يرى رجل الأمن إلا شمراً يترصده ليقضي عليه، ولا يرى فيمن حوله من أفراد إلا دخلاء مرتزقة، ولا يعرف سبباً لوضعه المعيشي التعس إلا أن غيره نهب ثروته ونهب خيراته، أما هو أو أبوه أو محيطه فلا ذنب لهم ولا مسؤولية عليهم فيما آلت إليه أمورهم، ولا يتساءل كيف إذا كان هناك تجار أثرياء ثراء فاحش من جماعته؟ وكيف هناك طبقة تكنوقراطية تمكنت من رفع دخلها من جماعته منهم أطباء ومنهم محامون ومنهم مهندسون، ولديهم منازل فارهة وسيارات وحمامات سباحة في منازلهم وأبناؤهم في مدارس خاصة، رغم أنهم لا ينتمون لأسر غنية؛ بل كونوا ثرواتهم من عملهم، ولم يسأل كيف يوجد فقراء من المعسكر (اليزيدي) لا يجدون ما يسدون به رمقهم؟ تعلم أن العلماء معصومون لا يسألون ولا يفتح معهم باب السؤال فتلك الأسئلة أبواب لجهنم ومنحت الدولة مكانة اجتماعية بل وحتى مالية بعطاءات وامتيازات لهؤلاء السادة.ذلك غرس يوئد الحلم قبل أن يولد، فليست الدولة وحدها من يقتل الأحلام، كما يروج البعض، رغم أنه هو نفسه حقق حلمه وأصبح رئيس تحرير في ذات الدولة التي يدعي أنها تقتل الأحلام.الدولة صنعت هالة وقدسية وأعطت حصانة لرجال الدين في هذه القرى وتركتهم يبنون القلاع ويحيطون بها عقول الشباب، مثلما تركت الدولة تلك القرى منغلقة بمنافذها الضيقة التي تحدد من يخرج منها ومن يدخل فيها، وأعطت مفتاح كل قرية لسيد من سادتها.حتى أصبح عندنا بحرينان؛ بحرين خارج القرى وبحرين داخل القرى، ليس الغنى والفقر ما يقسم البحرينيين؛ بل ستجد داخل القرى مجمعات سكنية ولا أجمل وحدائق وبيوت شاسعة كبيرة لتجارها وأعيانها مثلما هناك بيوت فقيرة بائسة، إنما لهذه القرى أعرافها التي تعلو على القانون، وسياجها الذي لا يفتح بأمر من سادتها ومصير من يحاول كسر هذه الحدود السيادية كمصير من أراد إزاحة الطابوق الذي وضعه (لوفرية) القرى فضرب على رأسه.معالجة هذا التشوه الخلقي في بناء الدولة مسألة حياة أو موت لأي دولة تريد أن تنهض، فلا تحدثني عن اقتصاد ولا تحدثني عن 2030 ولا تحدثني عن إصلاحات سياسية ولا تحدثني عن ديمقراطية ولا تحدثني عن أمن وعن سلام، ولا تحدثني عن أي محاولة نهضة قبل أن تصلح هذا الخلل البنيوي.