لم يغب التعايش عن البحرين بسبب ما مر بالمنطقة من أحوال في العقدين الأخيرين وما تعرضت له البلاد من اعتداءات على كل شيء في السنوات الخمس الأخيرة لكنه دونما شك تأثر بكل ذلك، ولولا هذا لما بادر صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى بمشروعه الداعي إلى التعايش بين الديانات والحضارات، ولما برزت مؤسسات تعنى بهذا الأمر ولما استنفر محبو هذا الوطن والإنسانية ليستذكروا صور التعايش التي كانت في البحرين وشغلوا أنفسهم بها وبه وشاركوا بطريقة أو بأخرى في تأكيد هذا التوجه ودعمه والتفاخر به كونه أمر حضاري ولأنه اليوم يحمل اسم صاحب الجلالة. كل متابع لهذا المشروع الحضاري الموغل في الإنسانية ينظر إليه بعين الرضى وبكثير من التقدير، كل من شارك في الفعاليات التي أقيمت ضمن هذا التوجه عبر عن شكره وتقديره لمملكة البحرين قيادة وحكومة وشعباً ونوه به. قبل أيام زار البحرين رئيس الشؤون الدينية التركي فعبر عن إعجابه بالنموذج البحريني في التعايش وأثنى عليه وقال «إن تجربة المنامة يجب تعميمها»، وهو ما يؤكد أن البحرين صارت مثالاً في هذا الخصوص، ولو أن مسألة التعايش تعدت مرحلة التجربة منذ سنين طويلة فهي مسيرة وأسلوب حياة وسلوك ظل الإنسان البحريني يتميز به.ليس فريق المخارقة الذي تم تناوله في مقال الأمس وحده الذي كان مثالاً في التعايش، ولكن كل أحياء البحرين كانت كذلك، لم يكن بيننا من يتحسس من الآخر، لا من انتمائه الديني ولا المذهبي ولا لأسباب تتعلق بأصله ولونه، بل لم يكن أحد يتحسس من مواقف الآخر وآرائه وأفكاره، ومن عاش في البحرين لابد أنه يتذكر أن أهلها كانوا يرددون دائماً مقولة «عيسى بدينه وموسى بدينه» والتي تعني أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أوجد الديانات وأرسل الرسل وهو من سيحاسب الناس على أفعالهم يوم القيامة.التحسس من الآخر دخيل علينا ولم نلمسه إلا في السنوات الأخيرة، فقد ظهرت لأسباب كثيرة فتاوى أصدرها دخلاء على الإفتاء تسببت في مثل هذا الأمر وبالغت حتى وصلت إلى حد تحريم تهنئة المنتمين إلى الأديان الأخرى في أعيادهم، وصدرت توجيهات ممن لا علاقة لهم بالسياسة فخلطوا الدين بالسياسة وصاروا يحاسبون الناس على مواقفهم وانتماءاتهم وآرائهم وأفكارهم. ما لا ينتبه إليه المؤثرون سلباً على التعايش والتسامح وقبول الآخر هو أن الحياة لا يمكن أن تستقيم بلون واحد، بل أنه حتى لو تم تقسيم العالم إلى قطع وخصصت كل مساحة إلى أصحاب دين معين أو مذهب فإن الحياة لا يمكن أن تستقيم، لأنه ببساطة لا يمكن للبشر إلا أن يتفاعلوا ويتعايشوا، فمن دون هذا يعني أنهم يخسرون الحياة ومتعها وينشغلون بالحروب. هي الحياة هكذا، لا تستقيم من دون التعايش مع الآخر، ووجود الآخر في مكان ما لا يكون دائماً بإرادة البشر، فالرازق هو الله سبحانه وتعالى، ولو أنه سبحانه قد قسم لهذا وذاك أن يحصلوا على أرزاقهم خارج هذا المكان لما تواجدوا فيه. الناس في البحرين أيقنوا كل هذه الأمور مبكراً فتعايشوا مع كل من تواجد بينهم وتفاعلوا معهم إلى الحد الذي لم يشعروا فيه أنهم غرباء عنهم ولم يشعر أولئك بأنهم دخلاء عليهم. الناس في البحرين عاشوا كل تلك السنين متحابين متسامحين متعاونين، يشعرون بآلام بعضهم البعض ويتقاسمون الخبز والفرح. ربما تبدو هذه الأمور بالنسبة لنا نحن الذين عشنا تلك الفترة الجميلة واضحة، ولكنها أيضاً لن تكون صعبة على هذا الجيل والأجيال التالية، خصوصاً في ظل وجود المشروع الإنساني لصاحب الجلالة.