زيارة السيسي الثانية للصين تدخل الدولتين في مرحلة جديدة من العلاقات الصحيحة والصادقة وذات البعد الحضاري، وقد كررت كثيراً، عندما كنت سفيراً لمصر في الصين، الدعوة لما أسميته «نادي الحضارات العريقة»، والتي من سماتها الالتزام بالعهود والمواثيق والتعاون بطريقة عملية وإيجابية وجادة، وهو ما يعيد الدور المصري على المستويات الدولية والإقليمية ويبني الوطن بالتعاون الحقيقي وليس بالشعارات. إن المرحلة التي تعيشها مصر الآن تتسم بخمس سمات؛ الأولى هي الجدية في القول والعمل ونموذج إنشاء قناة السويس الجديدة خير دليل على ذلك. والثانية السعي لتجاوز البيروقراطية والروتين التقليدي الذي يعوق الإنجاز والتقدم، وهذا ما أحدثته ثورتا 25 يناير و30 يونيو في الشعب المصري، ونتطلع لمزيد من التغيير الاجتماعي والثقافي خاصة في مجال البيروقراطية وفي قطاعات الرعاية الصحية والتعليم والخدمات الأخرى. الثالثة مواجهة التحدي الذي تفرضه الجماعات الإرهابية المنحرفة فكرياً والتي يتم تمويلها وإدارتها من الخارج، وهي جماعات مغيبة مثل جماعات الحشاشين في العصور الإسلامية الوسطى التي جلبت النكبات وسوء السمعة للإسلام وانحرفت به عن مساره الصحيح، وها هي تعيد تشكيل نفسها في الإرهاب والقتل الوحشي وغير ذلك من مظاهر تدمير الحضارة، وهو ما لا يقره الإسلام الحنيف. الرابعة ترتبط بالتعاون الدولي مع الدول الراغبة في التعاون على أساس المصلحة المشتركة مثل الصين وروسيا وأية دولة أخرى تحترم سيادة مصر واستقلالية قرارها. الخامسة الخروج بالفكر المصري بعيداً عن التقليد الأعمى لتجارب دول أخرى والانطلاق به بمنظور جديد يقوم على التفكير خارج الصندوق ووضع مبادئ جديدة وأفكار جديدة في العمل الاقتصادي والتنموي.وهذا ما ابتكرته ثورتا 25 يناير و30 يونيو التي صححت مسار الثورة الأولى وأعادت السيادة للشعب المصري، وأعادت له روح البناء والعمل وليس بالتظاهر المستمر المدمر، وحقاً قال الإمام محمد متولي الشعراوي «إن الثائر يثور كالبركان ليهدم الطغيان ثم يهدأ ليبني الأوطان»، ومفهوم الثورة الدائمة الذي عبر عنه تروتسكي هو مفهوم خاطئ بخلاف مفاهيم البناء في عهد الثوريين الجادين أمثال لينين او دنج سياو بنج. ولسنا في حاجة للتذكير بالتاريخ الإسلامي العظيم وكيف بنى النبي محمد عليه الصلاة والسلام الكوادر البشرية للرعيل الأول من المسلمين، وكيف انحرفت سلوكيات المسلمين بعد عهد الخلفاء الراشدين، وهذا هو الفارق في القيادات التي تغير مصير الشعوب والأمم وتبني الدول على أسس سليمة وتلك التي تدمرها وتنشر الطغيان وتصدر الثورات. وما أحرانا أن نعيد التذكير ونقتدي بسيرة النبي الكريم والرعيل الأول الذين أقاموا الإسلام معه على خير الأسس، وفي مقدمتها الاعتدال والتسامح والمحبة والرحمة وبناء الكوادر البشرية والتضحية والإيثار والبعد عن الأنانية والمطامع البشرية، لذلك وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم).ونتطلع لكي تواصل مصر -والدول العربية الشقيقة خاصة الدول الخليجية- اليوم المسيرة المباركة للأمام بمنظور استراتيجي وفكر مستقبلي يحافظ على تراث مصر الفرعونية والقبطية والإسلامية والعربية ومصر عرابي وسعد زغلول ومصطفى كامل وطلعت حرب باني اقتصاد مصر، وجمال عبد الناصر وأنور السادات، مصر ذات الأصالة التي حافظت على الإسلام والعروبة ومزجت الحضارات والثقافات في بوتقة الاعتدال والتسامح والعقلانية وجاءت اليوم مرحلة بناء مصر لمستقبلها على أساس من التعاون العربي والأفريقي والإسلامي والدولي، وهي محاور أساسية لسياسة مصر عبر العصور، وما زالت سمة المصريين هي العمل الجاد في مواجهة التحديات مثل بناء الأهرامات ودحر الهكسوس والمغول والاستعمار الحديث بصورة المتعددة وحرب أكتوبر وغيرها من مراحل فارقة في التاريخ المصري.نقول إن مصر استعادت روحها في البناء والعمل والتعاون الصادق مع مختلف الدول الراغبة في بناء علاقات على أساس المساواة والمنافع المتبادلة والاحترام لدولة ذات تاريخ عريق تعتز به أيما اعتزاز.
Opinion
زيارة السيسي للصين.. نحو بناء المستقبل الحضاري (1)
08 سبتمبر 2015