بتصعيد روسيا لدورها في سوريا من خلال دعم نظام الرئيس بشار الأسد بالدبابات ومشاة البحرية ونظم الدفاع الجوي يتعمد فلاديمير بوتين وضع الغرب في وضع في غاية الصعوبة.وموسكو وواشنطن على خلاف بشأن الصراع منذ بدايته. ولا يدور الصراع في حقيقته على تنافس جيوسياسي متصاعد فحسب بل على انقسام أيديولوجي متأصل. وكانت النتيجة رد القرن الحادي والعشرين على الحرب الأهلية في ثلاثينات القرن الماضي بين الفاشيين والشيوعيين والتي كانت من نذر الحرب العالمية الثانية وكانت تلك الحرب صراعاً طاحناً لا نهاية له غذته دول أكبر ما من سبيل لديها للمهادنة.ومنذ لمع نجم بوتين في أواخر التسعينات ظل أسلوبه في الحكم ووعوده السياسية للعامة بسيطة نسبياً. والفوضى خطيرة ولابد من تفاديها سواء أكانت تتمثل في الصراع الدائر في سوريا الآن أم في الانهيار الاقتصادي الذي أعقب سقوط الاتحاد السوفيتي. وقد أوضح بوتين على الدوام أن تلك الاستراتيجية تتطلب قيادة قوية واستعداداً للقسوة في بعض الأحيان. وهذا نهج يعتقد هو وكثير من الروس فيما يبدو أنه نجح في الشيشان وسينجح الآن في مواجهة تنظيم الدولة «داعش». والرأي في واشنطن خاصة في البيت الأبيض ووزارة الخارجية يخالف هذا الرأي تمام الاختلاف. وتصر الولايات المتحدة خاصة منذ «الربيع العربي» أن الديكتاتورية وغياب المحاسبة هما المشكلة في سوريا. ويقول البيت الأبيض إنه نظراً لكل من قتلهم بشار الأسد فلا بد من رحيله. والمشكلة بطبيعة الحال أن سياسة واشنطن في سوريا فشلت فشلاً ذريعاً وهو ما يعترف به الآن كثير من المسؤولين الأمريكيين الحاليين والسابقين. ويكفي صعود نجم تنظيم الدولة «داعش» وحده. والآن يعبر مئات الآلاف من السوريين عن آرائهم بأقدامهم من خلال الفرار من مخيمات اللاجئين المكتظة في الشرق الأوسط ويصنعون أزمة جديدة أخرى في أوروبا. ومدى مسؤولية الغرب بالضبط عن الأحداث في سوريا مسألة غير محسومة. فحتى عندما تفجر العنف في أواخر 2011 خلص بعض الدبلوماسيين الغربيين إلى أن دولهم كانت سبباً في تدهور الأمور. فمن خلال تشجيع المحتجين المناهضين للأسد ولا سيما في أعقاب الحرب الأهلية في ليبيا شعر الدبلوماسيون أن الولايات المتحدة وحلفاءها خلقوا توقعات غير واقعية أن الغرب قد يتدخل. وشعروا أن التلميح بأن ذلك لن يحدث كان من شأنه التخفيف من حدة الاحتجاجات في وقت أسرع بكثير ومن ثم إنقاذ الأرواح في نهاية المطاف. وبالنسبة لآخرين خاصة في الولايات المتحدة - التي أخذت وضعها كدولة بعد ثورة - فإن مثل هذا الحديث يخالف الحقيقة. ويقولون إن الأسد ومن حوله هم الذين اختاروا سحق المعارضة بوحشية. ولا يمكن إقرار بقاء الأسد في منصبه. حتى إذا كان التدخل العسكري على نطاق كبير غير ممكن من الناحية السياسية وربما من الناحية العملية أيضاً فإن دعم المعارضة المعتدلة هو الخيار الحقيقي الوحيد. والمشكلة بالطبع أن هذا النهج لم يفلح. فقد استولى تنظيم الدولة «داعش» على جانب كبير من البلاد. وفي الوقت الذي تقصف فيه الولايات المتحدة وطائرات من الدول العربية الحليفة والطائرات دون طيار مواقع تنظيم الدولة «داعش» فإن قوات الأسد تستخدم قوة نيران أكبر بل وأكثر عشوائية ضد جماعات المعارضة الأخرى. يتيح الوضع في سوريا فرصة سانحة وتكتنفه المخاطر في آن واحد. فمن خلال زيادة الدعم بدرجة كبيرة للحكومة في دمشق يمكن للروس تقوية وضعهم السياسي فيما يتعلق بحليفهم الحقيقي الوحيد في المنطقة. فهي فرصة أخرى تتاح لإحراج الغرب. غير أن روسيا يقلقها تنظيم الدولة «داعش» بدرجة أكبر من أي دولة تقريباً. ولو أن جماعة «داعش» وضعت يدها على الشرق الأوسط فإن موسكو تخشى أن يسهم ذلك في إشعال صراعات القوقاز التي تم سحقها منذ أكثر من عشر سنوات بكلفة بشرية ومالية وعسكرية عظيمة. وبالنسبة لبوتين فالوضع المثالي هو أن تلعب روسيا دوراً في تحالف عريض القاعدة مناهض لـ «داعش». وفي ظل هذه الظروف فإن كل قوة ستؤدي دوراً يتناسب مع نقاط قوتها. ويمكن للقوات التي تقودها الولايات المتحدة أن تشن ضربات تستهدف قادة «داعش» وغيرهم. في العراق يتلاءم الدعم العسكري الروسي خاصة في صورة عتاد مثل الطائرات المقاتلة مع الدعم المقدم من إيران وواشنطن. أما في سوريا فيمكن لموسكو تدعيم القوات الحكومية لأن هذه القوات تفعل ما لا تريد واشنطن أن تعرف عنه شيئاً. في العراق حدث هذا بالفعل إلى حد ما. إذ إن الإمدادات العسكرية الروسية وخاصة طائرات «سو-25» من طراز «فروجفوت» تدعم الجيش العراقي إلى جانب الدعم المقدم من الولايات المتحدة وإيران. أما فيما يتعلق بسوريا فأي حديث عن تحالف أوسع نطاقاً مناهض لـ «داعش» لم يؤد إلى نتائج. وقد صعدت واشنطن محاولاتها لإحباط أي تصرف روسي وضغطت في البداية على تركيا ثم على اليونان الآن لحرمان موسكو من حق تحليق طائراتها في الأجواء اليونانية. لكن ثمة حقائق صعبة ومروعة. فمثل هذا التصرف قد يفضي ببساطة إلى إطالة أمد الحرب. وفي الخمس عشرة سنة التي انقضت من القرن الحادي والعشرين لم تحقق الدول الغربية نجاحاً يذكر أو نجاحاً طويل الأجل باستراتيجية لمكافحة التمرد بناء على الضربات المستهدفة ومحاولة تحقيق سيادة القانون. ومع ذلك فقد ثبت أن عدة دول أخرى كانت أكثر فاعلية بأساليب أشد قسوة بكثير. وقد فعلت روسيا ذلك في الشيشان وفعلته سريلانكا ضد متمردي التاميل. ولقد قمت بتغطية الحرب السريلانكية لـ «رويترز». وكانت مروعة. فقد استخدمت الحكومة استراتيجية تقوم على قوة نيران شديدة عشوائية مدعومة بانتهاكات لحقوق الإنسان. لكن من الصعب إنكار أنها نجحت وأن الحرب انتهت. ويبدو أن موسكو استخلصت أن الحكومة وحدها في سوريا هي التي تمتلك القدرة وستنتصر. ومن الصعب تصور قيام أعداد كبيرة من القوات الروسية بشن هجوم في سوريا. غير أنه بعد الشيشان ثم أوكرانيا الآن لا يواجه الجيش الروسي نقصاً في الخبراء الذين يفهمون الجانب الأكثر ظلمة في الحرب الحديثة. ومن الممكن ضمهم على نحو مماثل إلى المستشارين الأمريكيين في العراق مع درجة ميل أقل بكثير لتقييد تصرفاتهم. والغرب ليس أفضل أخلاقياً بدرجة تذكر هنا. ففي اليمن وقبل الانسحاب في وقت سابق من العام الجاري يقول مسؤولون في لقاءات خاصة إن قوات غربية تفادت التورط في انتهاكات. وفي العراق ارتكبت فصائل شيعية موالية للحكومة المدعومة من الولايات المتحدة الكثير من الفظائع لدرجة أن بعض الخبراء الإقليميين يقولون إن العراقيين من السنة يفضلون في كثير من الأحيان بقاء تنظيم الدولة «داعش». وفي الوقت الحالي من المستبعد أن تغير إدارة أوباما سياستها في سوريا خلال الشهور الأخيرة من حكمها. وليس من المرجح كذلك أن تغير هيلاري كلينتون إذا فازت بالرئاسة السياسة بدرجة كبيرة عما كانت عليها أثناء توليها منصب وزير الخارجية من أجل السماح ببقاء الأسد. وفي ضوء المواجهة المستمرة في أوكرانيا - والمستشارون الأمريكيون يعملون الآن على تدريب القوات الأوكرانية بينما تقاتل قوات روسية على مسافة بضع مئات من الكيلومترات - فإن فرص التوصل لاتفاق مع موسكو قد تتضاءل. وعلى مدى عدة سنوات لوح بعض المسؤولين الغربيين باحتمال توقيع روسيا اتفاقاً يرحل بمقتضاه الأسد ويبقى من هم حوله. ومع ذلك وعلى نحو متزايد يردد مسؤولون في واشنطن وأوروبا همساً أن إبقاءه ربما يكون أبسط الخيارات. وفي وقت سابق من الشهر الجاري وقبل أن تدفع أعداد المهاجرين السوريين ألمانيا لتجاهل اتفاقية شينجن وإعادة فرض قيود على الحدود سلمت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأن من الضروري إجراء محادثات مع موسكو لبحث الوضع في سوريا. وربما يأمل الروس في المزيد من التنازلات. وهذا مما يطيب لبوتين. فهو ليس مهتماً بسابقة أن الزعماء الديكتاتوريين يجب أن يتنحوا لمجرد أنهم ظلوا في الحكم لفترة طويلة أو لأنهم قتلوا أعداداً كبيرة.* مراسل شؤون الدفاع العالمية في «رويترز»المدير التنفيذي لمشروع دراسة القرن الحادي والعشرين