بعيداً عن انشغالات الناس اليوم بمواضيع إنفلونزا الخنازير والكوليرا القادمة من العراق «من إيران والعراق لا يأتي خير أبداً»، بعيداً عن كل هذه الزوبعة أواصل طرح بعض الأفكار التي أثارها لقاء نائب رئيس الوزراء الشيخ خالد بن عبد الله حول الوضع المالي للدولة والإجراءات الأخيرة.بشيء من الصراحة أقول إن التعامل مع الأرقام بصورة جامدة وحسابية على طريقة «خذ ملايين من هذه الخانة بالميزانية العامة، وضعها في الخانة الأخرى»، بهذه الطريقة إنما نفكر فقط في الأرقام، وفي تقليص المصروفات على أمور تخص الناس في غالبها، وهذا الأمر ليس مطلوباً اليوم في ظل ما نمر به من ظروف، وما يحدث حولنا من أزمات وتوترات قد تتدحرج علينا.هذه الإجراءات إنما ستكون لها انعكاسات اجتماعية على المواطن «ولا أعني هنا موضوع اللحوم وحسب»، فلا بد أن نحسب الأمور ليس فقط بحساب الأرقام والخانات، وإنما بحساب التبعات والتأثيرات الاجتماعية على الناس، والأكيد أن الأمور الاجتماعية والمعيشية ستؤدي إلى أمور سياسية، وهذا هو الأمر الذي نريد أن تراه الدولة.ما نطرحه هنا ليس فقط من أجل مصلحة المواطن، ولكني أجد أن على الدولة أن تقدر حساب التبعات الاجتماعية والمعيشية على الناس، وفي ذلك مصلحة للحكم والدولة واستقرار الوضع العام للبلد قبل استقرار الوضع المعيشي للناس.حين يقال إن أغلب الإجراءات التي ستتم لن تمس المواطن، وإنما ستكون على الأجنبي والتاجر، هذا الأمر في ظاهره قد يكون صحيحاً، وفي باطنه ليس كذلك، فحين ترتفع أسعار الخدمات والوقود على التاجر فهل تتوقعون أن يدفع التاجر الفرق من جيبه «كزكاة من عنده للدولة»؟!أمر طبيعي أن يأخذ فارق التكلفة والربح من المواطن، ومن ارتفاع سعر السلع والخدمات بالسوق، وهذا الأمر سيؤثر على المواطن وسيشعر معه أن قيمة الراتب الحقيقية في يده قد انخفضت كثيراً جراء ارتفاع السلع والخدمات.من هنا أطرح وجهة نظر تتعلق بحساب التبعات المعيشية والاجتماعية على الناس قبل أن أفكر في الأرقام بطريقة جامدة، وبعيدة عن واقع الحال عند الناس، وماذا سيجري عليهم.الخوف من أن تحدث تراكمات عند الناس، وهذه التراكمات ستأتي جراء التغيرات التي طرأت على حياة الناس والوضع المعيشي عندهم، والخوف أن تأتي شرارة محلية أو خارجية وتشعل هذه التراكمات ربما سياسياً، عندها لا يمكن تقدير الأمور إلى أين ستؤول.نطرح هذه الآراء من أجل أن تُرى كل الصورة في موضوع رفع الدعم، وليس فقط بنظرة محاسبيه «نأخذ ملايين من هذه الخانة ونضعها في تلك»، الأمور لا تحسب حساب الخانات فقط، هذا الحساب والتقدير يكون ناقصاً، إذا استبعدنا التبعات المعيشية على الناس.من هنا، فإنني أعود وأطرح فكرة البطاقة التموينية للمواطن، ربما تكون أخف الضررين على الناس، أو أنها تغلق باباً ربما مع الوقت لن نستطيع أن نغلقه إذا ما بقينا عند تعويض الخمسة دنانير.موضوع البطاقة حتى وإن أصبحت كلفته بالميزانية العامة أكثر من كلفة التعويض المادي، إلا أنه أفضل للدولة في إغلاق أبواب الأزمات المستقبلية، والتبعات التي ربما لا نراها اليوم، فلم يكن أحد يتوقع أن أزمة كتلك التي حدثت في 2011 أن تحدث بتلك الصورة «مثلاً»، لكن تدحرج الأحداث الإقليمية، والبيئة الخصبة محلياً للانقلاب على الدولة عند البعض، جعلتنا في دوامة الأحداث وما تبعها، حتى وإن خرج البعض خروجاً طائفياً.ينبغي أن ننظر أبعد من أقدامنا اليوم، وينبغي أن ننظر إلى الأمور أبعد من لغة الأرقام فقط، «خذ من هنا، وضعه هناك»..!توقفت ذات مرة عند مؤشر خطير في الميزانية العامة، وأشرت إليه كثيراً، فهو «مربط الفرس» في كل الذي يجري لنا، لكن لا حياة لمن تنادي، الأزمة الحقيقية ليست فقط في انخفاض أسعار النفط، هذا الأمر متوقع أن يحدث عطفاً على ما مر به السوق العالمي للنفط منذ الثمانينيات، الأزمة الحقيقية للدولة هي في رقم محبط ومؤسف يرد في الميزانية العامة وهو رقم «الإيرادات غير النفطية».397 مليون دينار هي الإيرادات غير النفطية لدولة بأكملها، فلو نضب النفط اليوم، أو أصبح لا قيمة له «مثلاً»، فإننا لا نملك إيرادات للدولة إلا 397 مليون دينار..!الناس لا يمانعون في إعادة توجيه الدعم وحصره على المواطن فقط، ولكن الأمر ليس توفير 20 مليوناً أكثر أو أقل من دعم اللحوم هو الذي سينقذ الميزانية العامة، وإنما هناك تحديات جسام وكبيرة أمام الدولة في زيادة إيراداتها من كافة القطاعات، ومن الرسوم، ومن السياحة «رغم أننا ليس لدينا مشاريع سياحية تذكر».الدولة مع عميق الأسف لا تريد أن ترى أن الخلل في بند «الإيرادات غير النفطية»، مطار واحد في الإمارات يحقق عوائد على الدولة هناك بالمليارات، ونحن دولة بأكملها لدينا إيرادات غير نفطية تبلغ 397 مليون دينار، هل هناك من يرى الصورة..؟حين تريد الدولة أن توجه الدعم للمواطن فقط عليها أن ترى الأمور بشكل أشمل، وبشكل تضع يدها على الجرح، وليس فقط في موضوع اللحوم الأسترالية التي أصبحت وكأنها سبب عجز الميزانية، نحتاج إلى نظرة أشمل وأعم وأكبر، والمبلغ المذكور أعلاه يظهر أزمة تنوع الاقتصاد «الذي صدع رأسنا به بعض الوزراء»، وفي النتيجة مع كل هذا التنوع المزعوم نفاجأ بأن الإيرادات غير النفطية هي أكبر خلل في الميزانية العامة، بينما مازال أكبر بند للإيرادات بالميزانية بعد النفط، هو الجمارك، هل هناك من يرى الصورة اليوم كما هي على أرض الواقع؟