لا يوجد مجتمع في العالم لا يتطلع لأن يكون الأفضل، ويكون المستوى المعيشي فيه للمواطنين هو الأفضل أيضاً، ولكن ثمة جملة من الاعتبارات هي التي تحكم هذه المعادلة دائماً تبدأ بالموارد المتاحة، وتنتهي بالقرار السياسي سواءً كان توافقياً أم لم يكن.لذلك فإن النصف الأول من القرن العشرين الذي اتخذ فيه قرار بتحويل الدول الخليجية إلى دول ريعية حكمته ظروف عدة بدأت بالحاجة لإيجاد موارد بديلة بعد انهيار صناعة اللؤلؤ، وتحول مسارات التجارة العالمية، وهيمنة القوى الاستعمارية على المنطقة. تزامن ذلك مع بداية التعليم النظامي وبداية تراجع معدلات الأمية في المجتمعات الخليجية خلال إرهاصات تحديث ما بعد النفط. خلال تلك الفترة كان من المهم أن يكون هناك نظام جديد للدولة الخليجية الحديثة، ووجود ثروات ضخمة تمت الاستفادة منه من قبل النخب في تكريس شرعيتها المتوافق عليها شعبياً من الناحية التاريخية وتحمل مسؤولية توزيع الثروة. وساعد عدد السكان القليل جداً اعتماد نموذج الدولة الريعية الذي أتاح تحقيق معدلات التنمية بشكل متسارع ومستقر استفاد منه الجميع.وبالفعل تمكنت الدول الخليجية من تحقيق إنجازات ومكتسبات رغم الأزمات المتعددة التي مرّت بها داخلياً وإقليمياً ودولياً. لذلك يمكن الخروج بقناعة جدوى نموذج الدولة الريعية مرحلياً في تلك الفترة، ولكن المعضلة هنا أن هذا النموذج لا يساعد على تحقيق النمو الاقتصادي على المدى الطويل بالآليات التي اتبعت، ولم تكن هناك حاجة كبيرة آنذاك لبحث مستقبل هذا النموذج في ظل استفادة كافة الفاعلين في الأنظمة السياسية من الريع نفسه، وكأن هناك قناعة بأن النفط وثرواته الهائلة لن تنتهي أو يتعرض لاضطرابات مستقبلاً. هنا تمكن المشكلة، فنموذج الدولة الريعية كان مناسباً للدول الخليجية طوال فترة القرن العشرين، ولكن لمرحلة ما بعد القرن العشرين يبدو أنه غير مناسب ويتطلب نقاشاً سريعاً، وإجراءات فعّالة لضمان أمن واستقرار هذه الدول، وضمان الحد الأدنى على الأقل لرفاهية شعوبها. يتحدث أحد المسؤولين الحكوميين في دول الخليج بأن المشكلة الأساس في اتباع نموذج الدولة الريعية عدم مساعدة حكومات هذه الدول في إيجاد مصادر دخل إضافية تعادل أو تفوق مصادر دخلها النفطية. فالحكومات تعتمد بشكل رئيس على الدخل النفطي أو غيره من الموارد الطبيعية، وتبقى مسألة تنويع مصادر الدخل مجرد شعاراً للاستهلاك الإعلامي مقارنة بما ينجز فعلياً على أرض الواقع. نتفق مع هذا الطرح تماماً، ولكن السكوت عنه أكثر غير مقبول لأن التحديات تتزايد يوماً بعد آخر. ولذلك فإن الإسراع في مراجعة نموذج الدولة الريعية بات حاجة ماسة وليس أمراً كمالياً لتكون الإجراءات بشأنه شكلية. مشكلة الدولة الريعية أنها لا تساعدنا كثيراً على تنويع مصادر الدخل بسبب الثقافة التي تولدها في المجتمع، ولا تساعد على الإنتاجية والابتكار. والقول إن هناك مخاوف من مراجعة هذا النموذج قول مردود عليه، فاحتمالات المستقبل تتطلب مراجعات مستمرة، خاصة إذا وصل الأمر إلى الحديث عن المستقبل الكياني للدول الخليجية.