التصفح لأوراق بيضاء مملوءة بكلمات متراصة طبعت باللون الأسود، صفحات خالية من أي رسمة أو زخرفة أو ما يمكن أن يشد انتباهك، يجعل القراءة شيئاً عسيراً أو مملاً إذا صح التعبير. ولكن أن تجد نفسك تغرق بساعات من القراءة متمنياً لأول مرة في حياتك ألا تنتهي صفحات ما تقرؤه فهذا بلاشك يحوي سراً عظيماً. ولكن من يعرف أنني كنت أقرأ عن الرئيس الحادي عشر لجمهورية الهند، و»رجل الصاروخ الهندي» أبوالفاخر زين العابدين عبدالكلام، سيشهد أنني لم أبالغ في الوصف عندما أؤيد من قال إنه «ذو شخصية قلما يوجد الزمان بمثلها»، على الرغم من أنه لا ينتمي إلى عهد الأنبياء والرسل والخلفاء الراشدين وإنما أخلاقهم بكل جدارة متأصلة فيه. لدرجة تشعر بخجل كبير من نفسك عندما تتعمق بقراءتك عن قرب لهذه الشخصية التي ولدت في زماننا ولكن لا تنتمي لنا من قريب أو بعيد.فشهرته فاقت الحدود، كما بعد رحيله إلى دنيا الخلود يوم 27 يوليو 2015 عن عمر يناهز الـ83 عاماً، إثر نوبة قلبية أسقطته أرضاً، بينما كان يلقي محاضرة علمية له في «المعهد الهندي للإدارة» في مدينة «شيلونغ» كبرى مدن ولاية «ميغالايا» الهندية.وقرأت أيضاً، كيف عاش حياة كلها تضحية وإخلاص ونزاهة. أيمكن أن نتخيل أنه مات الرئيس السابق لأكبر جمهورية في العالم، ولم يترك وراءه من متاع الدنيا إلا حقيبة صغيرة تحمل ملابسه، وشقة متواضعة «تبرع بها»، وكمبيوتراً محمولاً، وجهاز الموسيقى «فيينا»، ومكتبة صغيرة؟! عاش بعد تقاعده من الرئاسة على جزء من المال الذي كان يحصله من بيع مؤلفاته. أما راتبه الشهري فقد تبرع به لتنمية قريته، لم يملك سيارة ولا جهاز تلفزيون ولا رصيداً في بنك، ولا أمتعة أخرى تذكر. تحدر الرئيس عبدالكلام من أسرة فقيرة لم تتغير حالتها الاقتصادية، حتى بعد توليه الرئاسة؛ ولايزال أعضاء أسرته فقراء يعيشون على الكفاف حتى اللحظة. ويهزك موقفه، لما استضاف رئيس جمهورية الهند أعضاء أسرته في قصر الرئاسة، كانت الاستضافة على حسابه الشخصي، ولم يرضَ أبداً أن تتحمل الحكومة نفقات سفرهم، وإقامتهم في قصره! مقدماً بذلك أروع الأمثلة وأسماها عن كيف تكون المسؤولية السياسية العليا بالنسبة إلى رجال السياسة الكبار. لقب بـ»رئيس الشعب»، لأنه كان حقاً رئيس شعبه الذي أحبه حباً جماً، فتح أبواب قصر الرئاسة لجميع طبقات الشعب، ولاسيما للفقراء والمهمشين. وبذلك فاق أبوالفاخر عبدالكلام الرؤساء السابقين في الشعبية، ولكنه هو الآخر لم تكن تهمه شعبيته بقدر ما كانت تهمه عمليات مكافحة الفقر والجهل في الهند، والدفع بمسيرة تقدم البلاد في مجالات العلم والتكنولوجيا والصناعة.وفي الختام تحية وسلام.. وللكلام والعبر والدروس بقية عن رجل الشعب عبدالكلام.
Opinion
هل توقف عبدالكلام عن الكلام؟!
06 نوفمبر 2015