أدرك قدر الحسرة التي تسعر في نفوس الأصدقاء الذين دعاهم لزيارته في أشهره الأخيرة ولم يلبوا الدعوة، أعرف تلك الدمعة العالقة في المقل، تخجل النزول لأنه الخذلان يحرجها، هي البغتة التي تسرق منا الأصدقاء والأحبة ولا تمهلنا البوح، ولا فرصة لوداع يليق، لاتزال كلماتك المقتضبة القصيرة تشاغب مسامعي.. تعالي لزيارتي يا فاطمة، تعالي لزيارة أخواتي فهن يحببنك ويذكرونك بالخير دائماً. وعدته ولم أفِ بوعدي، واليوم أرى الكثير مثلي ممن ينظرون إلى أنفسهم في المرآة، ويقولون ليتنا كنا أوفى لصحبة عمرها يمتد إلى منتصف تسعينات القرن الماضي، ربما أبعد. هل يحتاج منا خالد البسام اليوم أن نذكر مناقبه؟ ونشيد بأخلاقه العالية، وإنسانيته الرفيعة؟ هل سيسعده سردنا لمشواره الطويل العريض، صحافياً وثقافياً وأدبياً، وقبلهم إنسانياً؟ هل أنصفته الجوائز التي منحت له في السنوات الأخيرة؟ هل سيقرأ ما كتبنا وسنكتب؟ ويزهو بأقلام وقلوب أحبته لكنها لم تكن وفية بما يكفي لتؤنس وحدته في آخر حياته؟يســــألوننـــي بالأمــس، إلى أي طائفة ينتمي هذا الذي تبكين؟ أجيبهم أنه ينتمي لطائفة الوطن، ينتمي للبحرين وكفى، فلم يعرف غير البحرين طائفة، ولم يسكن كيانه غيرها..آه يا خالد.. أو بالأحرى «أستاذ خالد» كما تعودت أن أناديك، وكأنه عزيزة تموت من جديد، كنت نسخة كربونية عنها، قلبها ألحان، هدوء طباعها، جمال روحها، رقة تعاملها، كلامها الدافئ الذي يصل إلى القلب مباشرة حتى في أوقات صمتها، تواضعها الذي يفوق الحد، قربها ودعمها لجيل الصحافيين اللاحق بحب وافر وبساطة متفردة، أي شبه هذا الذي جمعكما حتى في تفاصيل الرحيل.تعود بي الذكريات حيث بدأت صغيرة، وحيث كنت كبيراً، أستاذاً في الصحافة تعطي دروس فنون الكتابة بلا مقاعد تدريب، توجيهات مقتضبة ككلامك، وملاحظات صغيرة كفيلة بتحويل الخبر الجامد إلى قصة مقروءة.. سألني وأنا أهم بنشر أول تحقيقاتي الصحافية في العام 1994، كان رئيساً لقسم الديسك حينها، من أين لك بهذه المفردات التي تفوق عمرك؟ أين ومتى تعلمتِ الكتابة؟ أجيبه: أنا أعشق جبران، أذوب بنصوصه، وأتوحد في أدبياته، أقتبس منها ما يلامس روحي، أقرأ أيضاً ما تكتب وما يكتب جيلك من الصحافيين، وأتعلم منكم، فوحده الدأب على القراءة يغذي الحصيلة اللغوية وينمي مدارك المفردات. فقال استمري.. غداً ستتميزين بما تكتبين، فقط تذكري أن تكتبي ببساطة، وأن تلامسي هموم القارئ وتبقي قريبة من الشارع.. بعد بضع سنوات قال لي وهو يتابع ما أكتب في الصحافة اليومية: أنتِ أفضل من يكتب القصة الخبرية في البحرين، وكانت شهادته هذه أثمن من كل الشهادات، جمعتنا صحيفة الأيام، ثم «هنا البحرين»، ثم «الوطن»، كانت المهنية في ما يكتب سمعة غالبة، يغلفها بقدر من وافر من الطرفة والحداثة في السرد، يغلب حس الدعابة على القالب القصصي في عموده اليومي، فيضيف نكهة متفردة على ما يكتب في مساحة لا ينافسه فيها أحد.هل يمكن أن يكون رصيد باحث من الطراز الأول نسمة عابرة، كحضوره، كعمقه في الرصد والتحليل والربط، كشغفه في البحث والتوثيق والترجمة، هذا الرصيد الذي يتزاحم الآن ، بتزاحم الحسرة على رحيله والندم على التقصير بحق الوفاء له حياً وميتاً.