في ظل ما نعيشه من نزاعات وأزمات على مستوى العالم بأجمعه؛ حيث لم يعد هناك في وقتنا هذا بلد يخلو من الصراعات والخلافات، يأتي السؤال «لماذا أخصص مقالي الثالث على التوالي عن الزعيم الهندي الراحل أبوالفاخر زين العابدين عبدالكلام؟».أي «رئيس الشعب» الذي كان يتمتع بقوة أخلاقية في حياته الفكرية والعملية، وهي التي جعلته مثالاً يحتذى به لدى شرائح وفئات الهند كافة. ولقد كان للانسجام الطائفي بين المسلمين والهندوس والمسيحيين، السائد في قريته، دوره الكبير في تشكيل شخصيته المتمثلة في احترامه لأفضل التقاليد الروحية والثقافية الرامزة إلى الوحدة في التعددية الهندية، وذلك انطلاقاً من إيمانه بأن احترام الديانات والثقافات عنصر مهم جداً في الإسلام.فالمتأمل في حياته يدرك سر شعبيته بكل سهولة، وهو إخلاصه في حبه لوطنه، ودوره في تأهيل بلده وتقويته في مجال الدفاع والأقمار الاصطناعية، ثم في قدرته على إلهام فئة الشباب التي كانت ستضطلع بدورٍ محوري في تحول الهند إلى قوة عظمى بحسب مشروعه. لذا من يدقق بكتاباته يلحظ التفاؤل القوي والنهج الإيجابي والبناء في منحاه الفكري، على الرغم من شيوع الفساد في الحياة السياسية العامة، عدا عن ذلك؛ بساطته في العيش واحترامه العظيم للثقافة المشتركة بين الديانات التي تتميز بها الهند.ألم يكن ما ذكرته حافزاً في أن أجرد نفسي من الأنانية وأتشارك مع الجميع ما قرأت عن هذا «الرئيس-الإنسان» الذي ينتمي لعصر الأساطير في زمن العولمة والعلم الحديث، الزمن الذي انقلبت فيه مقاييس الفضيلة لنتعرف كل يوم على مبدأ عشوائي، اعتباطي، إرهابي، قاتل دنيء!فهذا «الإنسان» لم يكن أبداً طامحاً بمنصب سياسي أياً كان، ليجد نفسه في غفلة «رئيساً لأكبر دولة» ليضفي على هذا المنصب نكهة ما عرفها أفراد الألفية الثالثة قبله. أنا شخصياً أعتقد بأن هذه أقل مكافأة ممكن أن يحوز عليها «رجل العلم» الذي أضاف إلى مهمته السياسية بعداً جديداً، وأزال الحواجز، وألغى المسافات التي كانت تحول دون وصول الشعب إلى رئيسهم، وسعى من خلال منصبه إلى أن يلهم الشعب نحو تحقيق ما كان يصبو إليه؛ وهو أن تتحول الهند إلى دولة متطورة، وبأسرع ما يمكن، لأنها تمتلك كل المؤهلات لذلك؛ واستطراداً لانضمامها آلياً إلى نادي الكبار في هذا العالم.فعبدالكلام كان يتحدث إلى شعبه، لا كرئيس دولة، وإنما كمعلم أصبح رئيساً للدولة، يلقنهم دروس الحياة ومسؤولياتها وأعباءها. فكان يتعامل مع الموظفين وعامة الناس كأنه «قطعة» منهم، ولم يمارس البتة أسلوب الكبرياء والتغطرس، وكان كريماً وشفوقاً وعطوفاً مع الصغار، وقد شهد له زملاؤه ومرؤوسوه بمعاملته الإنسانية الاستثنائية. قضى خمس سنوات في قصر الرئاسة، خلف خلالها مثالاً يحتذى به للحياة العامة، في السياسة كما في الاجتماع.تداول كثيرون مقولته الشهيرة: «دخلتُ قصر الرئاسة مع هذه الحقيبة التي تحمل ملابسي، وسأخرج منها مع هذه الحقيبة». وفعلاً ترك أبوالفاخر عبدالكلام الرئاسة مع الحقيبة التي دخل بها قصر الرئاسة، ولكن حقيبته هذه المرة، كانت مملوءة بحبّ شعبه الذي لقبه بـ»رئيس الشعب»، وهو ما لم يظفر به أي من الرؤساء السابقين للهند، على الرغم من شهرتهم وعظمتهم.فصدق من قال «شخصيات من وزن الرئيس أبوالفاخر زين العابدين عبدالكلام وطرازه، هي مفخرة للبشرية جمعاء، وليس للهند وشعبها فقط».