في كتاب يسطر المعنى الحقيقي للإصرار والأمل، أصدر الدكتور فؤاد شهاب كتابه الرائع بعنوان «حبيبتي ابنتي سميتها مريم»، والذي أحدث حفل تدشينه ضجة في الأوساط الثقافية لما يحمله هذا الكتاب من روح أسرية تتحدى الإعاقة حيث يروي فيه قصة ابنته الشجاعة مريم في التعامل مع الإعاقة السمعية من عزيمة وإصرار، وكيف استطاعت هذه البنت أن تستلهم الشجاعة والإيمان من والديها، لكي تتجاوز هذه الإعاقة وتخطو بل ترتقي في المجتمع.ما أن شرعت بقراءة مقدمة الكتاب الشيقة، لم أستطع التوقف عن مواصلة القراءة، حيث إن أبسط كلمة أستطيع أن أصف بها هذا الكتاب هو أنه يجسد «روح الإيمان الممزوج بالتحدي» ولو يعرف الدكتور فؤاد كم الفوائد التي استخلصتها من كتابه، لعرف بأنني مازلت أنهل من نهر المعرفة التي زودني بها أثناء تدريسه لي في جامعة البحرين.. ولو عرف الحالة النفسية التي صرت فيها بعد قراءة هذا الكتاب.. لما منحني إياه!على الرغم من الفرح العارم الذي شعرت به وأنا أعيش فصول تغلب مريم على إعاقتها، وأنا أفرح بأول كلمة تنطقها، وبالمراحل الدراسية التي اجتازتها، وعلى الرغم من إعجابي بقرارات الدكتور فؤاد للهروب من المجتمع «المعاق» لكي يبعد ابنته ونفسه عن كم الإحباط ليأخذ قراره بانفرادية واستغلالية عن المجتمع الذي يبيح لنفسه أن يتدخل في أبسط خصوصياتنا، وينأى بنفسه عن سماع الكلمات المحبطة، وعلى قدر فرحي بتخرج مريم وزواجها وإنجابها، إلا أنني في كل سطر كنت أرى صورة أخي «علي»!أخي علي من «ذوي الإعاقة» هو الآخر، ولم يستطع الطب تشخيص نوع الإعاقة حتى الآن على الرغم من أنه على مشارف الثلاثين من عمره، وعلى الرغم بأن الطب لم يحدد إعاقته إلا أن المجتمع الذي نعيشه حددها منذ أن كان طفلاً لا يتجاوز عمره السابعة! كلهم قالو لأمي «إنه متأخر» لا لا لم يقولوها بهذا اللطف! قالوها بمنتهى الوقاحة إنه «مو صاحي»!على الرغم بأن «علي» ولد ولادة طبيعية جداً، وكبر وترعرع معنا ولعب وارتفعت ضحكاته معنا، إلا أنه ولسوء الحظ أصيب بمرض السكري وهو في الثالثة من عمره، ولكونه هو الابن «المريض» في العائلة فقد حظي بدلال فائق من قبل أمي! وأذكر أن «علي» وصل إلى عمر المدرسة وقد كان طفلاً طبيعياً جداً، لا يستطيع نطق كل الكلمات بطريقة سليمة ويغالي في الشقاوة والدلال، ليس إلا!دكتوري الغالي فؤاد؛ لم يحظ «علي» أخي بمديرة رائعة كمديرة مدرسة مريم التي احتضنتها وأصرت على لعب دور أساسي في قصة نجاح مريم، كانت مديرة مدرسة علي أخي «مختلفة»، اتصلت بأمي في اليوم الأول من المدرسة، وقالت لها: إن علي يبكي بشدة، لماذا لا تتركينه في البيت لمدة سنة أخرى، عودي به بعد عام، عله يتقبل الجو الدراسي، ولا تخافي فلا شيء سيتغير عليه سوى أنه سيكون أكثر تقبلاً للمدرسة!! ولأنها أمي «الحنونة» التزمت بأمر مديرة هذه المدرسة. لم تقرأ أمي كتابك، ولم تقرأ حرصك على ألا يفوت مريم أي مرحلة دراسية، لما لذلك من أهمية لدى الطفل، ولم تقرأ تحليلك العلمي على أهمية انصهار الطفل من «ذوي الإعاقة» في المراحل الدراسية في التوقيت الصحيح!!ومرت سنة، وذهبت أمي «بعلي» مرة أخرى للانضمام لصفوف التعليم النظامي، لتتفاجأ هذه المرة بأن المدرسة ترفض دمج علي أخي، ولم تكتف المدرسة بذلك، بل قالت لأمي «علي يجب أن يدخل مدرسة للاحتياجات الخاصة، هو لا يستطيع نطق الكلمات بطريقة صحيحة!!» وبالحرف الواحد قالوا لها اذهبي به إلى معهد «لذوي الإعاقة» واصفين لها بأن المعهد سيكون هو الأمل.. وللأسف لم يكن هو الأمل أبداً. ومن هنا بدأت القصة التي لم تنته فصولها حتى اليوم.ذهبت أمي إلى أكبر مستشفى عام في مملكة البحرين آنذاك -وقد كان المستشفى الوحيد- لتشخيص حالة أخي علي، هو لا يستطيع نطق جميع الكلمات، على الرغم من قدرته على الكلام، لربما كانت المشكلة آنذاك لا تتعدى كونها «تصحيح النطق فقط»!! واستمر «علي» في مراجعة الأطباء على أمل تشخيص حالته، لكن دون جدوى!!أما بالنسبة للمعهد، فقد انتظم «علي» معهم، وأذكر بأنه كان يبكي لعدم رغبته في الذهاب إلى هناك، كان يقول «إنهم مجانين.. إنهم يعضونني» ولكن لم نكن حينها ندرك حجم وفداحة المكان الذي كان ينتظم فيه، لم نكن ندرك نوع البيئة الموجودة هناك وتأثيرها عليه، حتى بدأ أخي يفقد مهاراته الواحدة تلو الأخرى وبدأ يستسلم للأمر الواقع. وهذا ما تحدث عنه الدكتور فؤاد شهاب في كتابه عن أثر البيئة المحيطة في الفرد، وكيف سارع بانتشال ابنته من المعهد السيئ الذي كان يعتقد بأنه سيعلم ابنته النطق، وكيف رفض قطعياً أن يدخل ابنته معهداً لذوي الإعاقة المتعددة في البحرين!كانت المفاجأة الكبرى عندما بلغ علي أخي الـ16 من عمره، تخيلوا!! أن علي يعاني من إعاقة سمعية جزئية هي السبب وراء عدم تمكنه من النطق الجيد!! 16 سنة وعلي أخي يعيش في «صمخ جزئي»! ما جدوى كل الأطباء الذين لم يشخصوا حالته!! سامحهم الله!طبعاً بعد سن الـ16 لا يستطيع المعاق في البحرين أن يواصل «الأمل» أقصد أن يواصل الذهاب إلى المعهد! لأن عمره أصبح أكبر من اللازم، ويجب أن يربض محله. وإذا أسعفتني الذاكرة فإن علي التحق ببرنامج لتعلم الزراعة لفترة من الزمن، ومن ثم جلس في البيت، إلى هذا اليوم.الغريب في الموضوع أن علي قبل 5 سنوات فقد البصر أيضاً!! ولتتخيلوا شخصاً فاقداً للبصر، والسمع ومصاباً بالسكر.. ويفتقد للأمل!! هذا بالضبط هو حال أخي علي حالياً.. هو حطام «إنسان» ساهم المجتمع والجهل وسوء الخدمة الصحية والتعليمية في «تحطيمه»..دكتور فؤاد ليتني كنت مثلك، في إصرارك وتحديك، ليت والدتي صمت أذنيها عما قالته لها «نساء الفريج»، وأخذ «علي» لاستشارة طبية خارجية، إلى طبيب ملهم يركز على الحل لا المشكلة! كما الطبيب البريطاني الذي شخص «مريم».. ليتني كنت أكبر وأنضج لأدرك معنى الإصرار والتحدي، ليتني آمنت بأن أخي كان لا يحتاج سوى للتشخيص الصحيح والأمل والإصرار ليعيش حياة أشبه بالعادية..أستاذي العزيز، كتابك في غاية الروعة، كان لتحديك وإصرارك عظيم الأثر في حياة «مريم»، إنه أنت وأمها بعد الله تعالى سبب تميزها وتفوقها وسبب تخطيها لإعاقتها.عزيزتي مريم، كم تمنيت أحياناً أن يكون السمع «اختياري»، كم تمنيت أن أطفئ حاسة السمع عندي لفترة من الوقت لاسيما عندما يحدثني بعض الحاقدين أو الشامتين أو أعداء النجاح!! وهذا ما فعلته أنتِ.. حيث قررتِ ألا تستمعي إلا لقلبك.. فتفوقتِ على إعاقتك.. فكم أحببتك أنا يا مريم.. وأحببت إصرارك وعزيمتك. وكم أحببت والديك المكافحين اللذين استطاعا أن يسطرا بتفوقك على الإعاقة قصة نجاح.. ومعجبة بفكر والدك الذي يؤمن «بقانون الوفرة» ولهذا أسس معهداً لعلاج ذوي الإعاقة لكي يحصل الجميع على الفرصة التي حصلتِ عليها.وأدعو جميع أولياء الأمور إلى اقتناء هذا الكتاب سواء أكان لديهم طفل معاق أم لا.. حيث إن هذا الكتاب مرجع مهم لأي أسرة تريد أن تجعل الحب والأمل من أعمدة الحياة الزوجية. إن واقع «الإعاقة» في البحرين في وضع «حرج» ويستحق من المجلس النيابي أن يركز على تشريعاته بدلاً من مناقشة المواضيع التي لا تغني ولا تسمن من جوع.