بمجرد تعرض فرنسا لأسوأ اعتداءات في تاريخها، وتلقي دول أوروبية أخرى إنذارات بتهديدات إرهابية، حتى تغير الحال في القارة العجوز، التي تقدم نفسها للعالم على أنها «قارة الحقوق والحريات»، فلا صوت الآن يعلو لدى حكومات أوروبا فوق صوت الأمن، والحرب على الإرهاب، ومن ثم بدأت الحكومات الغربية بفرض قيود كاسحة على الحريات، في سبيل حماية أمن مواطنيها. وقد منحت الاعتداءات دول أوروبا صوتاً أعلى ورافعة إضافية لمواجهة المنتقدين لتشديد الرقابة على الحريات.وقرر الاتحاد الأوروبي تعزيز المراقبة على الحدود الخارجية للاتحاد، بما يشمل المواطنين الأوروبيين، كما ستعرض المفوضية الأوروبية بحلول نهاية العام مقترحاً لإصلاح قانون حدود فضاء «شنغن».ولم تعبأ حكومات أوروبا بشكاوى أنصار الحريات المدنية من أن الحملة الأمنية التي تقوم بها تلك الحكومات قد تؤدي إلى تقليص الحقوق الأساسية حتى بعد زوال الأزمة، ولكن من الصعب سماع اعتراضاتهم وسط النداءات التي تطالب بتشديد القوانين والتفاصيل التي تتكشف عن الهجمات أو التهديدات الإرهابية المختلفة لعدد من الدول خاصة فرنسا وبلجيكا والنمسا والسويد.وفي فرنسا، وفي أعقاب المجزرة التي وقعت في 13 نوفمبر الحالي، والتي أوقعت 130 قتيلاً و352 جريحاً، وتبناها تنظيم الدولة «داعش» الإرهابي، قرر الرئيس فرانسوا هولاند فرض حالة الطوارئ، والاستعانة بالجيش لمساعدة الشرطة في حماية المواقع الحساسة في البلاد، واقترح تعديل الدستور ليشمل صلاحية جديدة لتجريد مزدوجي الجنسية من جنسيتهم الفرنسية إذا انضموا إلى جماعات متطرفة ومنع المتطرفين الفرنسيين من العودة من الخارج.وأقرت الجمعية الوطنية «المجلس الأدنى في البرلمان»، الإجراءات الأمنية المتشددة الجديدة بشبه إجماع إذ وافق عليها 551 عضواً ولم يرفضها سوى 6 أعضاء. وفي مجلس الشيوخ في اليوم التالي كان عدد الأصوات الموافقة 336 ولم يعترض أحد.وفي استطلاع للرأي لمؤسسة «إيفوب» الفرنسية قال 84% ممن شاركوا في الاستطلاع إنهم «لا يمانعون في قبول مزيد من القيود وبعض التقييد للحريات».ونص قانون تمديد حالة الطوارئ المعلنة في البلاد لثلاثة أشهر على أن حالة الطوارئ المعلنة اعتباراً من 14 نوفمبر سيتم تمديدها لمدة 3 أشهر، أي ستظل سارية حتى أواخر فبراير المقبل. وقد لجأت فرنسا إلى هذا الوضع في عام 2005 عندما شهدت ضواحٍ وأحياء شعبية أعمال شغب، لكن الفارق هذه المرة أن حالة الطوارئ شملت كل الأراضي الفرنسية وليست مناطق بعينها.ونص القانون أيضاً على توسيع نطاق الإقامة الجبرية ليشمل كل شخص تتوفر أسباب كافية للشك بأن سلوكه يشكل تهديداً للأمن والنظام العام، إضافة إلى أن بعض الأشخاص الموضوعين قيد الإقامة الجبرية يمكن أن يمنعوا من الاتصال مباشرة أو بشكل غير مباشر بأشخاص يشتبه أيضاً بأنهم يعدون لأعمال تهدد النظام العام. كما اقر القانون نظام المداهمات، خاصة أن حالة الطوارئ تجيز لوزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف السماح بمداهمات دون المرور بالسلطة القضائية، شريطة الالتزام بقواعد مشددة. وقد نفذت في فرنسا أكثر من 800 عملية مداهمة خلال العشرة أيام الماضية.وتبنى النواب الفرنسيون تعديلاً يتيح للحكومة حجب مواقع إنترنت وشبكات تواصل اجتماعي تمجد الإرهاب وتحض على أعمال إرهابية. وأفسح القانون المجال أمام حل جمعيات أو مجموعات تشارك أو تسهل أو تحض على تنفيذ أعمال تلحق ضرراً خطيراً بالنظام العام.ولم تعبأ الحكومة الفرنسية بتقييم أحزاب المعارضة ومنظمات حقوق الإنسان لتشديد الرقابة على الحريات، لأنها اعتبرت نفسها في ظرف استثنائي وحالة حرب مع الإرهاب. واستشهد الرئيس هولاند بإعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 -وهو وثيقة تتيح لفرنسا القول بأنها مهد حقوق الإنسان- للدفاع عن الإجراءات الصارمة.وقال إن النص التاريخي يعلن «أن الأمن ومقاومة الطغيان حقان أساسيان، ولذلك يجب علينا ممارستهما». ولم يتردد رئيس وزرائه مانويل فالس في التأكيد على أن «الأمن له الأولوية بين كل الحريات».وفي بلجيكا، لم يختلف الوضع كثيراً، إذ رفعت السلطات إلى الدرجة القصوى مستوى الإنذار الإرهابي في منطقة بروكسل وداخل العاصمة، مع انتشار أمني كبير بسبب تهديد وشيك من هجمات شبيهة باعتداءات باريس. وبرر رئيس الوزراء شارل ميشال الإجراء الاستثنائي بـ«خطر وقوع هجوم ينفذه أفراد باستخدام أسلحة ومتفجرات وربما حتى في أماكن عدة في الوقت نفسه» وأن الأهداف المحتملة هي الشوارع التجارية والتظاهرات والفعاليات والأماكن المكتظة ووسائل النقل.* وقفة:أدانت الدول العربية بوجه عام، ودول مجلس التعاون الخليجي بوجه خاص الاعتداءات الإرهابية الأخيرة في فرنسا، وأيدت إجراءات باريس لمكافحة الإرهاب. لكن السؤال الذي يفرض نفسه، إذا عكسنا الوضع، وكان ما حدث -لا قدر الله- قد وقع في بلد عربي أو خليجي، وباستثناء إدانة الإرهاب التي لابد منها، هل ستؤيد أوروبا الإجراءات العربية لمكافحة الإرهاب؟ أم ستكون التصريحات على شاكلة «ندين الإرهاب لكن نرفض المساس بحقوق الإنسان (....)»، و«ندعو إلى ضبط النفس (....)»؟ لذلك أترك الإجابة لقارئي الكريم.
Opinion
الأمن أولوية.. في «أوروبا الحرية»!
24 نوفمبر 2015