الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.أعزائي القراء، تناولنا وإياكم في العمود السابق الأسباب التي تدفعنا لحب الوطن وتنمية شعور الانتماء له، وكيف أن المقاصد الشرعية اعتنت بهذا الحب، بل ونمته. ونشرع اليوم بعون الله في ذكر عدد من الآيات القرآنية التي تظهر بوضوح مدى كون حب الأوطان من مقاصد الإسلام.* وأول هذه الآيات ما ذكره الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم الخليل، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم: «وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر» «البقرة: 126»، فخليل الرحمن، عليه السلام، دعا هذه الدعوات المباركات، باستتابة الأمن والنهل من الخيرات، وهذه الآية نص في استحباب الدعاء للأوطان، وحث أصحاب الديانات، بالاقتداء بأبي الأنبياء.يقول الشيخ طاهر بن عاشور في تفسيره «13/55»: «قالوا في دعوة إبراهيم – عليه السلام – «رب اجعل هذا البلد آمناً» إنه جمع في هذه الجملة جميع ما يطلب لخير البلد».والمتأمل أيها الأحبة، في هذه الدعوة، يلحظ أن الرزق قرين الأمن، بل لا يتحقق الرزق إلا بعد استتابة الأمن، وقد امتن الله تعالى على أهل مكة هاتين النعمتين فقال سبحانه: «أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم» «العنكبوت: 67»، وقال جل وعلا: «أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون» «القصص: 57».* أعزائي القراء، وأيضاً من الآيات ذات الدلالة قوله تعالى: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)»، «الممتحنة: 8» ففي الآية أن الشريعة اعتنت بحفظ مفهوم الانتماء والمواطنة، وذلك من جهتين:الجهة الأولى، عندما نسبت الديار إلى أهلها، «ولم يخرجوكم من دياركم»، فإضافة «دياركم» تشير للانتماء الجماعي لهذا الوطن من جميع ساكنيه، وأنه ليس محصوراً بفئة دون فئة. والجهة الأخرى، أن الشريعة أمرت برعاية الأمن والسلام، مع كل من لم يتعد حرمة الأوطان، بل أمرت بالبر إليهم والإحسان. أما من يتعدى على العباد، ويسعى للنيل من مكتسبات البلاد، فقد حثت الشريعة على نبذه، بل قتاله، عناية منها بحفظ مفهوم الوطنية والانتماء للوطن، كما في قوله تعالى: «أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير (39) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله»، «الحج: 39، 40».وكما في قوله تعالى: «ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتـــــم مؤمنيـــن (13)»، «التوبـــــة: 13».وقد كان من خبر الجماعة من بني إسرائيل الذين أمروا بقتال جالوت ومن معه أن قالوا: «وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا»، فكان الباعث لهم لطلب القتال في سبيل الله، هو ما حصل لهم من فوت الديار والإخراج من الأوطان، ثم لما أذن لهم بالقتال ولم يستجب معظمهم، لامهم الله سبحانه وتعالى وجعل إعراضهم عن القتال من الظلم والله سبحانه لا يحب الظالمين، يقول جل جلاله عنهم «فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين (246)»، «البقرة: 246».ومما يناسب ذكره في هذا المقام، ما تناوله أئمة الإسلام، من وجوب إذن السلطان، في أي تحرك للقتال، ويشهد لهذا ما جاء في صدر الآية من طلب الملك للقتال معه، «ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله»، «البقرة: 246»، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة «رضي الله عنه»: «إنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه، ويتقى به». هذا ما تيسر ذكره اليوم، نلتقيكم بإذن الله في العمود القادم، لنستكمل عرض النصوص القرآنية المتعلقة بذات الموضوع.* الباحث الشرعي بإدارة الشؤون الدينيةبوزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف
Opinion
آي القرآن في حب الأوطان «1-2»
10 ديسمبر 2015