الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أعزائي القراء، فنستكمل بعون الله ما شرعنا به في العمود السابق من عرض أبرز الآيات القرآنية التي تظهر مدى كون حب الأوطان من مقاصد الإسلام.* يقول الله سبحانه وتعالى منبهاً على فضل الوطن الذي نعيش فيه، وأنه قرين الروح قرين النفس: «ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم»، «النساء: 66». ففي الآية أن الإنسان كما يحب نفسه ويخشى عليها من القتل ونحوه، هو كذلك يحب وطنه فطرةً ويخشى عليه من أي سوء يمسه. وقد جعل الله سبحانه الإخراج من الوطن قرين إزهاق النفس والروح، وكم هما شديدتان على الإنسان. وإذا كان حفظ النفس من جملة الضرورات الخمس الشرعية، فإنه بضياع الأوطان لا تستقيم أصلاً هذه المقاصد الخمس.* أعزائي القراء، ومن الآيات ذات الدلالة أيضاً، امتداح الله سبحانه وتعالى من ترك ما فطر عليه الناس -ودعت إليه الشريعة أيضاً- من حب الديار، وما بها من متاع وأموال، أو ذكريات وأصحاب، رجاء ما عند الله، يقول سبحانه: «للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون (8)»، «الحشر: 8»، فالآية تمتدح المهاجرين على هجرتهم، إذ ضحوا بما يصعب على النفوس فراقه، والابتعاد عنه، نصرة لما هو أولى وأولى، كما قال تعالى: «قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين (24)» «التوبة: 24»، وبهذه التضحية الكبيرة والجليلة فضل المهاجرون على الأنصار، والذين بدورهم أحبوا من هاجر إليهم وقال الله عنهم: «والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9)»، «الحشر: 9».فكان للجميع من المهاجرين والأنصار النصيب الكبير من الإيثار والتضحية، فالأنصار واسوا إخوانهم المهاجرين ببعض أموالهم، وقاسموهم ممتلكاتهم، وشاركوهم في بلادهم ووطنهم. والمهاجرون تركوا الجميع: الأموال والديار والأهل والأولاد، فصاروا فقراء بعد الهجرة والخروج من البلاد.ولهذا أمرنا الشارع أن نقدر لهؤلاء تضحيتهم، وأن نحبهم وندعو لهم، يقول جل جلاله: «والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم (10)»، «الحشر: 10».* أعزائي القراء، ومن المعاني القرآنية ذات الصلة ما جاءت به الشريعة في تقرير عقوبة النفي من الأرض كما في حد الحرابة، يقول عز وجل: «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33)»، «المائدة: 33».والمتأمل للآية يستشعر أن النفي من الأرض جاء ضمن مجموعة من أشد العقوبات: القتل، والصلب، وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، فوقع النفي من الأرض الشديد دليل على شدة العذاب به، وما ذاك إلا لأن البلد محبوب، وقد كان النفي عنه عقوبة من أجل ما في النفس من حب البلد.وعندما نركز في دلالات الآية يظهر لنا من خلال مفهوم المخالفة أن الإقامة في الوطن من أعظم النعم، إذ إن النفي منه من أشد العقوبات. هذا ما تيسر ذكره اليوم، نلتقيكم بإذن الله في العمود القادم، لنشرع في ذكر الأحاديث النبوية الدالة على أن حب الأوطان من مقاصد الإسلام.* الباحث الشرعي بإدارة الشؤون الدينيةبوزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف