لا أزال أذكر بعض المقتطفات من حوار دار بين والدي وصديقه، وأنا بعمر صغير، حيث كان لهذا الحوار وقفات حاسمة وحازمة. ولكنني كأي طفلة بعمري آنذاك دائماً ما كنت أحاول أن أترجم ما أسمعه بشكل حرفي أو بشكل صوري والذي يكون أقرب إلى مخيلتي وبعيداً كل البعد عن الواقع. فكان محور الحوار أن «الشخص هو من يصنع الكرسي وليس العكس»، فسماع الجزء الأخير من هذه العبارة، «أي ليس العكس»، كان كفيلاً بأن يشغل حيزاً من تفكيري ويجعلني أفكر مراراً وتكراراً، «فكيف لكرسي أن يصنع بني آدم؟! فالقاعدة الحقيقية أن الإنسان هو من يصنع الجماد وليس العكس!»، ومع مرور الزمن بلاشك، كان ذلك كفيلاً أن يشرح لي ويعلمني معنى ما دار من حوار في ذلك الزمان.يلفتني حقيقة عندما أتعرف على شخص في مناسبات عامة أو خاصة، اجتماعية أو ثقافية، وهو يقدم مسماه الوظيفي أو مهنته أو مكان عمله على اسمه الفعلي! وذلك كي يرسم لك كيفية الصورة التي يجب أن تتعامل بها معه، فهم للأسف يعانون من «عقدة الخواجة»، وبطريقة غير مباشرة، فارضاً عليك احترامك لمنصبه قبل شخصه، لأنه هو نفسه لا يعرف معنى احترام الذات، لدرجة أنني شخصياً كنت أعتقد أن هذا هو الأمر الطبيعي للتعريف، رغم تمردي الذاتي على الأسلوب، الذي كان لا يروق لي صراحة، إلى حين التقيت بأشخاص يحملون مناصب رفيعة جداً في المجتمع، فهم يعرّفون عن شخصهم الكريم «بأسمائهم» فقط، ومن ثم يتم ذكر منصبه عندما تدعو الحاجة لذلك، معتبراً أنه هو من يضيف إلى هذا المنصب أو ذاك وليس العكس، وأن قيمته الحقيقية تنبع من ذاته، لما أضاف عليها وصقلها ودعمها من مهارات، فهو بذلك صانع لهذه المكانة، وفي المقابل فهو مؤمن وعلى يقين بأن احترام الناس له يجب أن يستحوذ عليه على أساس احترامهم لشخصه أولاً ومن ثم منصبه.رغم بساطة هذه الفلسفة إلا أنه من الصعب أن نفهمها في وطننا العربي، ومع هذا فلا يمكنني أن أجحف بحق أشخاص وأمثال وإن قلّت، ولكننا نحمد الله أنها غير معدومة في يومنا هذا، وفي مجتمعنا الداخلي. فهذه الشخصيات أجل لها كل الاحترام والتقدير لأنها تتمتع بالكثير من البعد الفكري والرقي الأخلاقي، وبشخصية فولاذية، إلا أنهم محافظون على تواضعهم الحقيقي غير المزيف والبعيد كل البعد عن الادعاءات الموهومة.محبكم، أخوكم، ولدكم، ابنكم، كلها أوصاف كفيلة أن تعرّفك على إنسانية هذا الإنسان من دون مجاملات، وتعلمك بصدق أننا مهما كبرنا بمكاناتنا المهنية أو الاجتماعية يجب ألا نفقد رمزيتنا، وإنسانيتنا، ونكون على يقين بأننا نحن من نضيف لهذا الكرسي أو ذاك قيمة ونحن صانعوه، ونحن من نفرض احترامنا على الآخرين، ونحن من نقرر إما أن نكون تابعين أو متبوعين!!وصدق من قال:ليس التطاول رافعاً من جاهل وكذا التواضع لا يضرّ بعاقل
Opinion
عقدة الخواجة!!
18 ديسمبر 2015