الرأي

حياتنا

المسيــــر



يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: «نحن كلما ازداد عمر الواحد منا سنة في العد، نقصت من عمره سنة في الحقيقة، حتى ينفد العمر، ويأتي الأجل، ونستقبل حياة أخرى تبدأ بالموت. فنحن نوسع المستقبل بالأمل.. وما هذا المستقبل الذي نسعى إليه، ونكد من أجله؟ لما كنت طالباً كان مستقبلي في نيل الشهادة، فلما نلتها صار المستقبل في الوصول إلى الوظيفة.. فلما وصلت إليها صار المستقبل في بناء الأسرة وإنشاء الدار، وإنسال الولد، فلما صارت لي الزوجة والدار والأولاد والحفدة، صار المستقبل في الترقيات والعلاوات والمال المدخر، وفي الشهرة والمجد والكتب والمقالات، فلما تم لي بفضل الله ذلك كله، لم يبق لي مستقبل أفكر فيه، إلا أن ينور الله بصيرتي، ويريني طريقي، فأعمل للمستقبل الباقي، للآخرة، وإني لفي غفلة منها.. فالمستقبل في الدنيا شيء لا وجود له، إنه يوم لن يأتي أبداً لأنه إن جاء صار «حاضراً» ..وطفق صاحبه يفتش عن «مستقبل» آخر، يركض وراءه!! إنه (كما قلت مرة) مثل حزمة الحشيش المعلقة بخشبة مربوطة بسرج الفرس، تلوح أمام عينيه فهو يعدو ليصل إليها، وهي تعدو معه فلا يدركها أبداً. إن المستقبل الحق في الآخرة، فأين منا من يعمل له؟ بل أين من يفكر فيه؟».
حياتنا صفحات تطوى بطي سريع قبل أن تطوى صفحات هذا الكون.. ترسل إشارات الخطر والحذر من دقائق معدودة نعيشها هنا وهناك.. حياتنا لم تعد كالسابق.. عندما كنا صغاراً انغمسنا بفرح الطفولة وشقاوتها.. ومن ثم عنفوان الشباب وطموحاته.. فلم نكن نأبه بالقادم المجهول.. ولم نفكر لحظة واحدة في حياة «المسؤوليات الضخمة» التي كابدنا فيها العناء..
حياتنا هي تلك المساحة الصغيرة من أفعال وأقوال ومواقف عابرة.. لم نلتفت أبداً إلى جمال كيانها، ولم نوفها حقها في الالتزام الإيماني، والعمق الفكري، ولم ننشد من خلالها الوصول إلى مراتب الأمل المعقود على حب الخيرات والبعد عن الملذات..
حياتنا أسرفنا فيها يوماً ما أيما إسراف في الرحيل عن الواقع المر، والانزواء إلى بؤرة ضيقة حققنا فيها ملذات النفس ومشتهياتها الدنيوية.. لم نكن نفكر فيها بذلك المحضن الجميل والرافد المطل على أسرار نفوسنا..
حياتنا باتت مراحل سريعة.. ننتقل فيها بكل طاقاتنا وتفكيرنا ومشاعرنا.. لننشد الإنجاز السريع.. بلا تسويف.. فكلما تسارعت قربت الحياة الأخرى التي ننشد فيها الفوز في لحظات الحساب الأخروي.. بجنة خالدة ونعيم مقيم.
حياتنا أضحت عند البعض مجرد أضحوكة وألاعيب يتقاذف دميتها يمنة ويسرة بجداله العقيم، ونظراته الضيقة، فحينها يلزمك الحذر، وتدفعك الغيرة بأن تكون فارس الخير الذي يبحث عنه عشاق الجنان، فلا تتراجع أبدا، ولا تعطل نفسك في تلك الاستراحات الساخرة؛ لأنها مجرد مهاترات دنيوية، وفجوات نفسية، تؤخر مسيرك مع القافلة الناجية من رواسب الدنيا.
حياتك اصنعها بقوة إيمانك بالمولى الحكيم.