من أكثر اللحظات النفسية قساوة التي يمكن أن تواجهك، حين يدفعك الموقف منسجماً مع الزمان لأن تكتب عن شخص غادر المكان، وخلف وراءه فجوة لم تكن في الحسبان، شخص لا ينتمي إلى مجموعة قديم الزمان، وحكايات كان يا مكان، ولم يكن أحد فرسان الثناء والهجاء، ولا ينتسب إلى حقبة الصالحين والأنبياء. فالزمان معلوم والمكان في وسط القلب محفور، وهذا الإنسان بطفولة بائسة سمعناها من لسانه الصادق أدمعت القلوب، وهو أيضاً الشاب المغوار، الذي طوع قيود الانكسار لصالحه وصالح الناس أجمعين، دون تفرقة بين جنس أو مذهب أو طائفة أو دين، وبعزة وكرامة مشهور واسمه بدم الشهادة منقوش، في أحد شوارع الحبيبة بيروت، صدقوني فالحديث عن إنجازاته، وحياته ومواقفه البطولية يطرب لها القلب والروح، فلا أحد يعتقد أن الحديث عنه يمكن أن يختزل بسطور، وبكل حرقة قلب عليّ أن أقرن اسمه وأقول «الشهيد الشيخ رفيق الحريري»، رئيس الوزراء اللبناني الراحل رحمه الله، وكما يحب الجميع أن يناديه «ابن صيدا جنوب لبنان البار»، وابن بيروت العريقة.14 فبراير 2005، الساعة 12:25 ظهراً، دوى في العاصمة اللبنانية بيروت انفجار لم يسبق له مثيل، انفجار لايزال صدى صوته يتردد في أذني كلما تذكرت الموقف خاصة أنه لم يكن يبعدني عن مكان وقوع الحادث سوى أميال قليلة، فشاء الله عز وجل أن يهبني الحياة مرة ثانية، لأشهد على من كان «رفيق لحلم لبنان الكبير» والذي كان يترجم واقع عشناه وعايشناه، بحركة إنسانية، تعليمية، عمرانية، واقتصادية.كان خبر استشهاده بمثابة الزلزال الذي تنهار معه أعمدة البنيان، ويبتلع معه كل ما يخطر على بالك من أحلام. من عام 2005 ولبنان وكل بقعة فيه تبكيك يا سيدي الرئيس، تبكي غيابك، ودائماً الشعب يردد ويقول «أين من عمرها؟ أين من احتضن أبناءنا الطلبة ومنحهم فرصة الدراسة بأحسن الجامعات في لبنان وبقية البلدان؟! أين من شيد الجسور ووصل الأبعاد؟ أين من فهمنا قبل أن نقول وقدم لنا السعادة والهناء قبل أن نبوح؟ فكل من كان يعاني من ضيقة مادية كان ينظر ويشعر بأمل كبير أن الله العلي القدير قد أرسل له «رفيق» ليكون له خير معين وينتشله من حالة الفقر إلى طريق مليء بالحرير، ويساعده لتحقيق «حلم» بلحظة يأس شعر أنه لم يصبح ولم يصير.فاسم «الشيخ رفيق الحريري» معروف في البيوت قبل أن يسجل على كرسي السياسة. فكنت أسمع عن المساعدات الإنسانية الكثيرة والمتعددة التي يقدمها لمن هو محتاج، بالرغم من أنه ينتمي إلى صيدا أي جنوب لبنان ولكنه مد يد العون للجميع من دون استئذان. فأجمل ما يميز هذا الإنسان أنه «إنسان» وبالرغم مما نسمعه من اختلاف بالخط السياسي الذي ينتهجه كل واحد منا إلا أننا نجمع على أنه رجل السيادة والعطاء والكرم لكل لبنان. رحل «رفيق» ولكن علينا أن نكمل الطريق، نكمل مسيرة بدأها من الثمانين، وللمواقف الإنسانية له الكثير، وسأذكرها متتالية.