جلبة، ضوضاء وفوضى عند مدخل القصر الإمبراطوري، شغب كبير والناس تتظاهر يتملكها الغضب. طلت الأميرة الشابة الفاتنة على الحشد، التفتت لتسأل الجنود عما يحصل، فأجابوها بأن الناس لا تملك خبزاً تأكله، فأجابتهم الأميرة بكل عفوية: «ما المشكلة إذاً، فليأكلوا بسكويت»!!في فجر السادس عشر من أكتوبر عام 1793 اقتيدت الأميرة التي أغضبت الشعب المتضور جوعاً إلى المقصلة، ليهوي النصل على عنقها فاصلاً رأسها عن جسدها، لتخلدها الحادثة كرمز للامبالاة والاستخفاف بالناس.كثيرون يعرفون هذه الواقعة المعنية بالأميرة الفرنسية النمساوية الأصل ماري إنطوانيت، والتي حكمت فرنسا بوجودها جوار زوجها لويس السادس عشر، والذي أطاحت به الثورة الفرنسية، حين ضج الناس ووصل بهم الحال إلى وضع لا يمكن السكوت عليه، وسط غياب الطبقة الوسطى، بوصول فئة الأغنياء لمستوى فاحش، وانحدار فئة الفقراء لمستوى داقع، وفي المسافة بينهما نما النظام الإقطاعي بشكل رهيب ليفرز غلاءً في المعيشة وصل لارتفاع جنوني في الأسعار طال الخبز الذي يعتبر القوت اليومي للطبقة الكادحة، والذي دفعها للتظاهر.ماري إنطوانيت، تذكرنا بكثير من المسؤولين الذين يصل بهم البون الشاسع عن الناس والإحساس باحتياجاتهم إلى التحدث بأسلوب «اللامبالاة» وإطلاق كلمات تفسر على أنها استخفاف بهموم المجتمع.لدينا وللأسف من يطل علينا بين الفينة والأخرى ويقول للناس «كلوا بسكويت»! المجتمع بعناصره ومكوناته يتحدث بحرقة وألم ويعرض مطالبه وهواجسه وهمومه، لوجود بعض المطالب بعيدة التحقق، سواء بسبب جهات معينة أو أداء غير صحيح ونتائج بعيدة عن تحقيق الرضا لدى الناس والوصول لمستوى الإنجاز. في حين بعض المسؤولين للأسف يخرجون ويصرحون ويقولون إن قطاعاتنا متطورة وإنجازاتها عظيمة، متغافلين عن أن واقع الحال يشير لتراجعات مخيفة، وتدهور في تحسين الخدمات، وبعد شاسع عن العمل وفقاً لتلمس مطالب الناس وهمومهم.المصيبة في حالة التناقض بين بعض التصريحات والواقع، المجتمع يقول شيئاً، الناس تئن في حديثها، في المقابل بأتي أصحاب المسؤوليات فيقولون عكس ذلك!! أليس هي نفس الحالة التي عانى منها الفرنسيون في سبيل بحثهم عن الخبز؟! وفي جانب آخر تطل عليهم ماري إنطوانيت لتقول لهم «كلوا بسكويت» في رد عفوي بريء يدل على عقلية لم تدرك حقيقة ما يدور حولها، لأنها أصلاً لم تعايشه. لكن الفارق بأن هناك من يقولها لا لـ«جهل» بوضع الناس، بل يقولها إما لتخديرهم أو تزوير الواقع، أو تجميله أمام المسؤولين الأعلى منهم رتبة في المسؤولية والقرار.الفارق فقط بين هذه الواقعة التي مازالت تذكر، بأن رأس ماري الفتاة الجميلة التي أسرت قلوب العديدين رغم تحسس الفرنسيين منها كونها نمساوية الأصل، أن رأسها قطع بنصل المقصلة، في حين أن قطاعاتنا هنا في عديد من حالاتها سواء المتعلقة بالتنظيم والتخطيط والتأهيل والترقيع هي التي يقطع رأسها يوميا بالمقصلة، وتحديداً بمقصلة الإحباط والوضع الجامد والفشل الذي يحاول البعض تصويره على أنه وضع مثالي ورائع بائعاً إيانا «بسكويتا»، لكنه أقل جودة من بسكويت ماري إنطوانيت.الاستخفاف بالناس وآرائهم وعدم الالتفاف لمطالبهم واحتياجاتهم مسألة من شأنها تحديد نوعية هذا المسؤول أو ذاك، بل من شأنها بيان ما إذا كان أهلاً للمسؤولية أو لا، وللأسف نجد في بعض أوساطنا العديد من المسؤولين الذين يعتبرون الناس «صفراً على الشمال» في كل شيء، يعتبرونهم فئة لا يجب أن تدلي بدلوها أو رأيها أو أن تخالفهم في التوجه أو تنتقدهم في القرارات، مثل هؤلاء بالتأكيد لن يجنون احترام الناس ولا محبتهم ولا ثقتهم.إن كنا نريد إصلاح أي وضع خاطئ وإبداله بوضع أفضل، يفترض علينا في المقام الأول أن نعترف بأن هناك أخطاء، وأن نتحدث بشجاعة عنها، وأن نحاسب المسؤول الذي باستهتاره وعدم مسؤوليته تسبب بها، لكن إن استمرينا في تغليف الواقع وتحويره بحيث يبدو كل شيء من الخارج جميلا بعكس داخله، وأن نواصل الخطاب «الديكوري» بأن الوضع مستتب وناجح، فإننا بالتالي لن نتقدم قيد أنملة، حينها علينا الإدراك بأننا سنخلق للناس نسخا عديدة من ماري إنطوانيت، وهنا الكارثة، فالفرنسيون لم يستحملوا «استهتار» أميرة واحدة جاهلة بأحوالهم، فكيف بأشباه لها في أغلب القطاعات؟!
Opinion
كم «ماري إنطوانيت» لدينا؟!
25 فبراير 2016