صدر كتاب لروبرت كاجان المؤرخ وزميل مركز «بروكينجز» وأحد أقطاب المحافظين الجدد، المعنون بـ«العالم صنع أمريكي The world America Made»، والذي برزت أهميته مع تبني الرئيس الأمريكي باراك أوباما بعض مقولاته في خطابه عن حالة الاتحاد، وطرح تساؤلين رئيسيين، مفادهما: «هل تواجه أمريكا تراجعاً في مكانتها كقوة عظمى؟»، و«هل يواجه الأمريكيون خطر أن تمارس دولتهم الانتحار الاستباقي الذي تمارسه القوى العظمى قبل سقوطها؟». وقد أجاب على تلك التساؤلات من خلال تحليله قائلاً إن «النظام العالمي الحالي -الذي يتسم بوجود عدد غير مسبوق من الديمقراطيات والازدهار غير المعهود رغم أزماته، والسلام بين القوى الكبرى- إنما يعكس المبادئ والتفضيلات الأمريكية، وقد بني هذا النظام على القوة الأمريكية، ويعتمد في استمرارها على حمايتها، وبالتالي إذا تدهورت القوة الأمريكية، فإن النظام العالمي سيتدهور، وسيحل محله نظام يمثل انعكاساً لقوى أخرى، ربما تؤدي به إلى الانهيار، كما انهار النظام العالمي الأوروبي في النصف الأول من القرن العشرين، ولا يمكن -كذلك- تصور بقاء الأسس الليبرالية التي يقوم عليها هذا النظام، إذا انكمشت القوة الأمريكية». يدفعنا المفكر الأمريكي إلى التفكير في أن ما تفعله أمريكا من سياسات جاء ليخلق التوازن بين القوى بالعالم، بحيث إن استمرار الفوضى في المناطق خصوصاً في الشرق الأوسط والآسيوية منها والاتحاد الأوروبي يأتي لصالحها بحيث إن استمرارها سيعطي مجالاً أكبر لتدخلاتها والعمل على إيجاد الأرضية الخصبة في تعزيز القوة التي تملكها تلك المنظومة.من خلال التقارير الإخبارية، نجد ما ندر من الأخبار المتعلقة بالإرهاب بأمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث إن أغلب التقارير اليوم تتحدث عن وجود تفجيرات إرهابية في مناطق الشرق الأوسط ودول الاتحاد الأوروبي، فما معنى ذلك؟المعنى الوحيد لذلك أن أمريكا تمارس هدفها الأساسي، وهو أن تكون المحور الأول بالعالم، وأن تلجأ لها أغلب الدول المتخاصمة، وهذا ما يجعلها تتصدر الخارطة السياسية في جميع المفاوضات، حيث بالكاد لا يمكن لأي دولة أن تتفاوض مع الأنظمة المعادية لها من دون وسيط أمريكي، وهذا الأمر يجعل حدة التوتر تزيد بين الدول بفعل الوسيط، فلا يمكن الوثوق بدولة بحجم أمريكا أن تصلح بين جميع دول العالم والأنظمة السياسية، لأن بقاءها في الصدارة، يحتاج الكثير من الخبث والدهاء، وأن تطور تلك الأنظمة وتعزيز تحالفاتها يتسبب بخطر محدق على أمريكا، خاصة أن هناك سياسة خارجية أمريكية تدار بطريقة تجعل الخصوم أكثر حدة من ذي قبل إذا أرادت ذلك، فالدول التي تستطيع أن تتحالف من دون أن تجعل وسطاء هي من يكون لها القوة اليوم، والأمثلة كثيرة وآخرها التحالف العسكري الإسلامي، إضافة إلى تشكيل الاتحاد الأوروبي الذي اعتمد بتأسيسه على الاقتصاد مما جعل له قوة لا يستهان بها، وجعل له كياناً اقتصادياً له سياساته وتوجهاته، بعدما شهدت أوروبا الدمار في الحرب العالمية الأولى والثانية، إلا أنه للأسف لم تكتمل هذه القوة بسبب التجاذبات السياسية.العمل الأمريكي هو عمل سياسي قبل أن يكون له قوة عسكرية بحيث إن السياسة الخارجية الأمريكية مدعومة بمجموعة من الأهداف المصيرية التي لا تقبل أن تمس أو أن تتوقف، فلا يمكن للولايات المتحدة أن تخضع نفسها لتوترات في العلاقات مع الدول التي لا تجني لها المال ولا السلطة فيها، وبالتالي العملية أو النظام الذي تخضع له المفاوضات الأمريكية قائم على أن يحقق أو يخدم الأهداف المصيرية من خلال المفاوضات، حتى لو كان هذا الأمر سيكون ثمنه الأرواح، فلا يمكن أن يستمر النظام السوري من دون دعم، وهنا لا أتهم واشنطن بذلك ولا موسكو، ولكن هل يعقل أن يستمر نظام كل هذه السنوات من غير دعم؟! في المقابل، فإن النظام العراقي السابق قد تم الإعلان عن الحرب عليه ومحاربته وخلعه في فترة لا تتعدى شهرين.ملخص الأمر، أن أمريكا لم تقرر إلى الآن القضاء على نظام بشار الأسد، لاعتبارات كثيرة، ومنها أن خلعه سيضر بالأهداف المصيرية لها، ومنها خلق الفوضى لإسرائيل، واستمرار حالة عدم الاستقرار في المناطق المجاورة لسوريا، لأنها تنظر إلى أن وجود «حزب الله» اللبناني أمر إيجابي، حتى تنشغل به الدول العربية والخليجية ويتم إبعادها شيئاً فشيئاً عن القضية السورية وعن القضية الأساسية وهي فلسطين، إذاً خلق الفوضى وعدم الاستقرار هو هدف مصيري لأمريكا في علاقاتها مع الدول الحليفة لها، وعليه فإن النظام السياسي الأمريكي سيدشن مرحلة تعزيز الفوضى بجميع المناطق التي من الممكن لو اتحدت أن تهدد كيانه، وعلى دولنا اليوم النظر إلى تلك الأهداف المصيرية لأمريكا، والحذر من أن يكون الوسيط السياسي بين دولنا أمريكياً، لأن هدفه المال والسلطة، بمعنى أدق، وسيط أمريكي.. أرباح عالية!!