هناك الكثير من المفاهيم الثقافية بدأت تأخذ شكلاً معكوساً في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، مما أدى ذلك إلى تحريف القيم الأخلاقية والدينية والإنسانية بشكل مخيف جداً. البعض يعي جيداً أنه يتجه إلى تحريف تلك المفاهيم الخيرة من أجل أهداف ومميزات اجتماعية وسياسية يسعى إليها عن سابق إصرار وترصد، والبعض الآخر يقوم بذلك من باب الاقتداء بالآخر أو أن يكون اتباعه للمفاهيم الخاطئة من خلال حسن النوايا وضعف المعرفة.لعل من أبرز مضامين هذه القضية هو الخلط بين الدين والمتدين، أو فلنقل بين الإلهي والأرضي، فالبعض يعتبر -على سبيل المثال- بأن رجل الدين هو الدين نفسه، ولهذا لا يجوز انتقاد رجل الدين لأنه ظل الله في الأرض، بل هو الموازي الحقيقي للرب، ولهذا يكون من الصعب على المفكرين والفلاسفة والنقاد أو الباحثين والمحققين في مجالات العلوم الإنسانية والتاريخية وحتى التشريعية من المختصين أن يقوموا بدورهم في مقابل دور رجال الدين المعصومين عن الخطأ!هذه القيم السلبية التي برزت في القرن الهجري الأخير أعطت مساحة مقدسة لرجل الدين يحلم أن ينالها كل عظماء التاريخ ومكتشفي العلوم المعاصرة، فالقدسية التي أسبغتها موروثاتنا الثقافية خلقتْ سياجاً حصيناً حال بين رجال الدين وبين غيرهم من المحققين والباحثين، فصار النقد للمقدس الأرضي أشد من نقد السماء وتعاليمها، ومما قد أعطى هذه الأفكار المنحرفة فسحة للتغلغل في أوساط مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة وفي عقول العوام من الناس، هو ترويج رجال الدين لأنفسهم كأنهم رسل الله بعد الأنبياء، محاولين تدعيم فرص هذه الأفكار عبر الاستناد لبعض الأحاديث التي تتكلم عن فضل العلماء، فحاولوا استثمارها لصالح مشاريعهم الدنيوية والشخصية.رجال الدين المعاصرون وفي هذه المرحلة تحديداً من تاريخ الأمة الإسلامية لا يحتاجون أن يدافعوا عن أنفسهم ولو كانوا يعلمون جيداً أنهم يسيرون في الطريق الخطأ، فلديهم من الجنود الشرسين من هم موزعون على المساجد والمجالس وفضاءات الإنترنت وغيرها من مواقع الحياة من أجل الدفاع عنهم حتى لو اضطر أولئك الحراس لتشويه صورة الناقد ورميه بكل التهم التي قد تقذفه خارج الإنسانية.نحن ضد النقد لأجل النقد أو التشهير أو إسقاط رجل الدين لا لسبب سوى أننا قد نختلف معه، فهذا الأمر خارج نطاق الأخلاق والمنهج العلمي، لكننا أيضاً في المقابل ضد أن يشن رجال الدين وأتباعهم من جنود مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها حملة شعواء ضد كل المفكرين والفلاسفة والدول ولكل مظاهر التحضر فقط لكي يثبتوا للعالم أنهم على الصراط المستقيم وغيرهم هم من المغضوب عليهم والضالين. الحل يكمن في فهم التالي، وهو أن كل الأفكار المتناوَلة بين أيدينا هي أفكار بشرية حتى لو أسبغنا عليها كل قداسات الأرض، فلا قداسة لدى المسلم سوى كتاب الله وسنة نبيه، وما دون ذلك يمكن لنا أن ننقده ونمحصه بالحجة والبرهان، فالتعبد لا يكون إلا بالدليل وليس بالميل العاطفي نحو فلان أو علان، فهذه من أشد الأزمات الفكرية التي يجب تصحيحها قبل أن يدعي بعض رجال الدين «النبوة».